«فورين أفيرز»: العَوْلَمة لم تنته بعدُ

آية سيد
العولمة لم تنتهي بعد

ما يشهده العالم هو ركود جيوسياسي ترك العولمة هائمة في مهب الريح، وليس نهاية للتكامل الاقتصادي.


بعد مرور عامين ونصف العام على جائحة فيروس كورونا كوفيد 19، و8 أشهر على الحرب الروسية الأوكرانية، يبدو أن العالم يمر بنقطة تحول.

وفيما أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى قطع العلاقات الاقتصادية بين روسيا والغرب، عطلت أسواق الغذاء والطاقة العالمية أيضًا، وفق ما جاء في مقال نشرته مجلة “فورين أفيرز“، 25 أكتوبر الحالي 2022، لرئيس “أوراسيا جروب”، إيان بريمر.

نهاية عصر العولمة

يدّعي عدد كبير من المحللين الآن، أنه مثل ما أنهت الحرب العالمية الأولى وجائحة الإنفلونزا عام 1918، العصر العظيم الأول للعولمة، فإن المزيج الذي يجمع الحرب الروسية الأوكرانية، وكوفيد-19، والشعبوية المتصاعدة، والمنافسة الجيوسياسية بين أمريكا والصين، بدأ في تغيير اتجاه العصر العظيم الثاني للعولمة.

وفي المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عُقد في دافوس في مايو الماضي، حذرت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، من “التفكك الجيو-اقتصادي” المقبل، وقالت إن الدول والشركات “يعيدون تقييم سلاسل الإمداد العالمية” ويلغون عقودًا من التكامل.

ركود جيوسياسي

ذكر بريمر أنه جرى الإعلان عن نهاية العولمة عدة مرات من قبل، بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، وبعد استفتاء البريكست في 2016 وانتخاب دونالد ترامب لاحقًا في العام نفسه، وبعد تفشي جائحة كوفيد-19 في 2020.

ولكن حقيقة أن أيًّا من هذه التنبؤات لم يتحقق، ينبغي أن تمنح المحللين وقفة للتمهل قبل التنبؤ بانحسار العولمة مرة أخرى. وفي هذا الشأن، رأى بريمر أن ما يشهده العالم هو ركود جيوسياسي ترك العولمة هائمة في مهب الريح، وليس نهاية للتكامل الاقتصادي.

نهاية حقبة

قال بريمر إن من يدعون نهاية العولمة ليسوا مخطئين كليًّا، لأن حقبة “العولمة المفرطة” التي استمرت من السبعينات حتى الأزمة المالية العالمية في 2008، عندما كانت أمريكا تهيمن على تحرير التجارة والتكامل العالمي، انتهت مع العالمية، وهي الأيديولوجية التي دفعتها، وأحادية القطب، وهي النظام الدولي الذي دعمها.

وذكر الكاتب أن واشنطن، التي أصبحت أكثر توجهًا نحو الداخل، لم تعد تمتلك الإرادة السياسية للعمل كمخطط وضامن للاقتصاد العالمي. وفي الوقت نفسه، تواجه الصين تحديات اقتصادية هيكلية تحد من قدرتها على ترويج نظامها الخاص عبر الفرص التجارية وسياسة الاستثمار.

ماذا تكشف البيانات الاقتصادية؟

تدحض البيانات الاقتصادية فكرة أن العولمة تغير اتجاهها، وفق بريمر. وفي الوقت الذي تتراجع فيه تدفقات رأس المال العالمية مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، منذ أن بلغت ذروتها منتصف العقد الأول من هذا القرن، استمر الاستثمار عبر الحدود في النمو وظلت عائدات الأسواق المالية مترابطة بشدة على الصعيد العالمي.

وأضاف الكاتب أن تجارة البضائع العالمية اقتربت من أعلى مستوى لها على الإطلاق. ورغم توقف المفاوضات التجارية متعددة الأطراف، فإن الاتفاقيات التجارية الجديدة تستمر في الظهور، مثل اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة والاتفاق الشامل والتقدمي للشراكة عبر المحيط الهادئ.

الاكتفاء الذاتي

بما أن معظم الدول أصبحت مدمجة بنحو جيد نسبيًّا في الاقتصاد العالمي، فقد انخفضت المكاسب التي قد يحصل عليها العالم ككل من ازدهار العولمة. وبوجه عام، بمجرد أن تندمج الاقتصادات المغلقة ذات الدخل المنخفض في الأسواق العالمية، وتصبح أكثر ثراءً وتقدمًا، يزداد اكتفاؤها الذاتي.

وأشار الكاتب إلى أن الصين والاقتصادات الناشئة الأخرى التي اتجهت إلى العولمة في آخر 50 عامًا تنتج الآن المزيد مما تستهلكه، وتستهلك المزيد مما تنتجه. وهذا يظهر في البيانات كتراجع لكثافة التجارة العالمية، ولكنه علامة على التقدم، وليس انحسار العولمة.

التقدم التكنولوجي

قال بريمر إن التقدم التكنولوجي، مثل التجارة الإلكترونية والتشغيل الذاتي والذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية والعمل عن بعد، حوّل الكثير من عمليات الإنتاج ذات العمالة الكثيفة إلى عمليات تحتاج إلى رأس مال ومعرفة كثيفة.

ولفت بريمر إلى أن الأهمية المتزايدة للخدمات والأصول غير الملموسة في الاقتصاد الحديث، فالتجارة في الخدمات والأصول غير الملموسة، خاصة الخدمات الرقمية، تمثل حصة ضخمة من النشاط الاقتصادي العالمي، وكل هذا يشير إلى أن المقاييس التقليدية للعولمة أصبحت بالية، وأن العالم أصبح أكثر ترابطًا من أي وقت مضى.

انفصال غير نهائي

أشار الكاتب إلى أنه رغم العقوبات الاقتصادية على موسكو فإنها ليست معزولة كليًّا عن العالم، لأن مواردها الطبيعية ثمينة، لدرجة تمنع عزلها عن الاقتصاد العالمي بالكامل. وعلى الجانب الآخر، تخوض أمريكا والصين منافسة جيوسياسية محتدمة، أدت بهما إلى الانفصال في مجالات مهمة للأمن القومي.

وتشمل تلك المجالات قطاعات “استراتيجية” مثل أشباه الموصلات والطاقة المتجددة ووسائل التواصل الاجتماعي، ولكن بحسب بريمر، هذا الانفصال الجزئي لا يمكن أن يتجاوز هذا الحد، لأن الاقتصادين، الأمريكي والصيني، مترابطان بشدة، والانفصال الكامل سيكون مدمرًا لهما وللعالم.

عالم بلا قيادة

رغم أن الانفصال بين روسيا والغرب من ناحية، والصين وأمريكا من ناحية أخرى، لا يرتقي إلى انحسار العولمة، فإنه يشير، حسب بريمر، إلى تغير في طبيعة العولمة، بما يعني أن الجيوسياسة سوف تتسلل إلى الحسابات الاقتصادية. ونتيجة لهذا، ستحاول الدول والشركات أن تجعل نفسها أكثر مرونة أمام الصدمات الخارجية.

وتعزل الاقتصادات، من ناحية أخرى، نفسَها عن الضغوط الجيو-اقتصادية، عبر نقل سلاسل الإمداد إلى الحلفاء والدول المجاورة، وتنويع مصادر الإمداد، والتخزين. وختامًا، قال بريمر إن هذه التحولات في أنماط التكامل العالمي قد تؤدي إلى خسائر في الكفاءة، ففي النهاية، السياسة والجيوسياسة تزيدان تكاليف المعاملات وتعيقان التخصيص الأمثل للموارد.

ربما يعجبك أيضا