هل يمكن أن تؤثر المساواة بين الجنسين على اختيار شريك الحياة؟

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – شهاب ممدوح

في أول موعد غرامي بينهما، تحدث “جوش” و”ميا” لبعضهما البعض وكأنهما يعرفان بعضهما منذ سنوات. كان “جوش” معجبا بذكاء “ميا”، في حين أعجبت “ميا” بدفء شخصيته وابتسامته الدائمة. قويت العلاقة بينهما، لكن الشكوك تسللت إلى قلبيهما بين الحين والآخر.

كان “جوش” هو المُعيل الرئيسي لطفله الذي أنجبه من زواج سابق، وكان وضعه المالي بائس. لكن هذا لم يزعج “ميا”، حيث عوّضت شخصية “جوش” عن هذا الأمر. مع ذلك لم يكن “جوش” هو “نوعها” المفضّل من الرجال: حيث كانت تحلم برجل أصغر بكثير منها، وذو جسم رياضي ووسيم. كان جوش، على الجانب الآخر، يحلم بامرأة ثرية وطموحة، ولديها مكانة اجتماعية وتعليمية رفيعة، ويُفضل أن تكون حاملة لشهادة دكتوراه (أو اثنتين). لكن “ميا” لم يكن لديها إلا شهادة ماجستير، وهو ما كان يمثل نقطة خلافية بعض الشيء. هذا لأن الأعراف تقول إن الرجال هم من يسعون للزواج من نساء يتمتعن بمستوى اجتماعي واقتصادي مرتفع.  

قد يبدو هذا السيناريو غريبًا، وهو بالفعل كذلك: هذه القصة من تأليفي، وهي تتحدث عن الشكل الذي ستبدو عليه العلاقات بين الجنسين بعد 100 عام في المستقبل. في الوقت الراهن، تعتبر الرغبة في الحصول على شريك جذاب وصغير في السن من الجنس الآخر، شائعة لدى الرجال أكثر من النساء. في حين تميل النساء أكثر لإعطاء الأولوية للثروة والمكانة الاجتماعية على حساب الجمال والشباب.. لماذا؟

يُرجع العديد من علماء النفس التطوريين هذا الاتجاه إلى قوة الدوافع البيولوجية الغريزية. يجادل هؤلاء بأن النساء لديهن غريزة بدائية للارتباط برجال أثرياء لإعالة الأطفال أثناء فترتي الحمل وتربية الأطفال . أما الرجال فيهتمون أكثر بخصوبة المرأة، إذ أن شباب المرأة وجمالها يدلان على خصوبتها.

في الماضي البعيد، كان هذا السلوك قابلاً للتكيّف، لذا قام التطوّر باختيار هذا السلوك وتشفيره في جيناتنا، للأبد. بالطبع، فإن طقوس عملية التزاوج الحديثة تختلف كثيرًا عن الطقوس التي سادت في زمن أسلافنا. لكن عالم النفس “ديفيد باس” يذكر في كتابه “تطوّر الرغبة” (Evolution of Desire) الصادر عام 2003، أنه “بالرغم من ذلك، فإن الإستراتيجيات الجنسية ذاتها التي استخدمها أسلافنا مازالت تعمل في يومنا هذا بقوة جامحة” (هناك القليل من البحوث التاريخية والمشتركة بين الثقافات بشأن التفضيلات الخاصة باختيار شريك الحياة وسط فئة “المثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسية”).

مع ذلك، شهدت الأدوار الجنسانية تحولاً جذريًا خلال السنوات الخمسين الماضية. فحتى وقت قريب في ثمانينيات القرن الماضي، كان يمكن أن تتعرض مضيفات الطيران في الولايات المتحدة للطرد إذا تزوجن، ولم يجر تطبيق حق المرأة في التصويت بشكل تام في سويسرا حتى عام 1990. ألا يجب أن نتوقع أن يؤثر هذا التغيّر في تقاليد العلاقات على تفضيلات التزاوج بين الرجل والمرأة؟ أما أننا مازلنا تحت رحمة قدرنا البيولوجي، كما يزعم علماء النفس؟

إن نتائج البحث واضحة: تفضيلات التزاوج بين  الرجال والنساء تبدو متشابهة أكثر فأكثر. يرتبط هذا الاتجاه بصورة مباشرة بالمساواة المتزايدة بين الجنسين، وذلك مع زيادة وصول المرأة إلى الموارد والفرص في مجالات العمل والسياسة والتعليم. في الدول التي لا تسود فيها المساواة بين الجنسين، مثل تركيا، يتضاعف اهتمام المرأة بالدخل المحتمل للشريك مقارنة مع الدول التي يوجد بها مساواة كاملة بين الجنسين، مثل فنلندا. وبالرجوع إلى قصة “ميا وجوش”، فإن الرجال الفنلنديين باتوا الآن يميلون، أكثر من النساء الفنلنديات، إلى اختيار شريكات حياتهم بناء على مستوى تعليمهن المرتفع.

بالطبع، فإن التحيّز الجنساني يتفاوت داخل كل مجتمع، كما أن المستوى العام للمساواة بين الجنسين لا يُترجم بالضرورة إلى مواقف إيجابية تجاه المساواة بين الجنسين على مستوى الأفراد. لكن لو كانت تفضيلات التزاوج محددة سلفًا من الناحية البيولوجية، فإن العنصرية الجنسية على مستوى الأفراد لا ينبغي أن يكون لها تأثير. مع ذلك، أثبتت الأبحاث التي أجريت في تسع دول خلاف ذلك. كلما كانت مواقف الرجال الشخصية أكثر سلبية تجاه مسألة المساواة بين الجنسين، زاد تفضيلهم لصفات مثل الشباب والجاذبية لدى النساء، وكلما كانت مواقف النساء أكثر سلبية تجاه مسألة المساواة بين الجنسين، زاد تفضيلهن لصفات مثل الثروة والمكانة الاجتماعية لدى الرجال.

يشير هذا الدليل لوجود بعض العيوب الخطيرة في رواية علماء النفس التطوريين. فلو كانت الجينات تحدد تفضيلات التزاوج لدينا، فكيف يعقل أن تتأثر هذه الغرائز، التي يُفترض أنها متجذرة فينا، سلبيًا تبعًا لنظرة الفرد والمجتمع لمسألة المساواة بين الجنسين؟  

لكي نكون منصفين، يعترف علماء النفس التطوريين أن العوامل الثقافية والتقاليد المحلية يمكن أن تؤثر في طريقة اختيار الناس لشريك حياتهم. لكن المساواة بين الجنسين ليست من بين هذه العوامل، لأنه حتى في الدول التي تسودها مساواة نسبية بين الجنسين، فإن الفجوة بين تفضيلات الرجل وتفضيلات المرأة تتقلص فقط لكنها لا تزول تماما. مع ذلك، هناك حجة مضادة تقول إن الأدلة التي تشير إلى الفجوة المتبقية بين تفضيلات الرجل والمرأة، تدعم موقفنا: تتقلّص الفجوة فقط بالقدر الذي يؤدي لتحقيق المساوة بين الجنسين. والتخلص تمامًا من تلك الفجوة يتطلب تحقيق مساواة كاملة بين الجنسين، وهو أمر لم يتحقق بعد.

للأسف، فإن الأدوار الجنسانية التقليدية ما زالت مستمرة حتى في مجتمعات تنعم بالمساوة. ففي دراسة دنماركية، اتضح أن الأزواج الذين تحقق زوجاتهم دخلاً ماليًا أكثر منهم، هم أكثر عرضة من الأزواج الآخرين لاستخدام أدوية لعلاج الضعف الجنسي. يتمثل أحد التفسيرات في أن هؤلاء الأزواج شعروا بضغوط لإظهار فحولتهم، لأنه لا يمكنهم الزعم بأنهم يضطلعون بدور “المُعيل”، تشير وجهة نظر أخرى إلى أن فقدان هؤلاء الأزواج مكانتهم بوصفهم معيلين للأسرة إدّى بطريقة ما لإصابتهم بالعجز الجنسي. في دراسة أخرى أُجريت في الولايات المتحدة، خفّضت النساء العازبات من سقف أهدافهن المهنية، وخففن من مستوى تأكيدهن لذواتهن على أمل أن تصبحن مرغوبات أكثر لدى الرجال. مع ذلك، في حال استمرار ازدياد هذا العجز الجنسي، الذي يُرجعه الرجال إلى ارتفاع مستوى تعليم النساء ودخلهن المالي، فإن هذه الأساليب ربما تصبح عديمة الفعالية.

ماذا لو نجح مجتمع ما بالفعل في تحقيق مساواة كاملة بين الجنسين؟ هل سيكون لدى الرجال والنساء تفضيلات متطابقة في اختيار شريك الحياة؟ حدسي يقول أن اختيارات الرجل والمرأة ربما لن تتطابق مطلقا. من المرجّح أن يتلخص الفرق الرئيسي في المطالب المتعلقة بمسألة الرضاعة الطبيعية عقب ولادة الطفل، إذ تستهلك الرضاعة الكثير من الجهد والوقت، ومن الصعب جدا مواءمتها مع العمل مدفوع الأجر، على الأقل، في ضوء هيكلة العمل في الوقت الراهن. والنتيجة هي أن النساء ستعملن على تعويض الخسارة المتوقعة في دخلهن، عبر اختيار أزواج يتمتعون بدخل مالي جيد. لن يكون لهذا القرار علاقة بالغريزة البدائية لدى النساء التي تدفعهن لاختيار رجل يوفر لهن الحماية، لكن هذا القرار سيكون مدفوعًا بحسابات عقلانية بشأن حاجات المرأة المستقبلية. علاوة على ذلك، فإن تبنّي سياسة اجتماعية تقدمية، وإجراء تغييرات على أماكن العمل، وزيادة مشاركة الآباء في رعاية الأطفال يمكن أن يخفف من الضغوط التي تدفع المرأة لتقديم تنازلات في حياتها المهنية.

يسألني طلابي أحيانا عما إذ كان من المستصوب أن يسود مبدأ المساواة بين الجنسين عند اختيار شريك الحياة. هم يخشون من أن تؤدي تلك المساواة لإطفاء جذوة حياتنا العاطفية. هناك خطورة أخرى تتمثل في أن تحقيق المساواة في تفضيلات التزاوج ربما يؤدي إلى زيجات يكون فيها الرجل والمرأة متساويين في التعليم والدخل المادي، وهو ما قد يؤدي لترسيخ عدم المساواة الاقتصادية في المجتمع. لكن وفقا لآخر تقرير بشأن الفجوة الجنسانية لعام 2017، ليس هناك ما يدعو للقلق. ونظرًا إلى المعدل الراهن للتغيير، فإنه سيمر بعض الوقت قبل أن يرتبط “جوش” و”ميا” ببعضهما البعض: لدينا على الأقل مائة عام قبل أن تتحقق المساواة بين الجنسين.  

المصدر – aeon

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا