“أرواح مشوهة”.. بارانويا “العظمة” وتدمير الذات

كتبت – علياء عصام الدين

السنابل الفارغة عادة ترفع رأسها عاليًا، وما تكبر أحد إلا لنقص في نفسه، ولا تطاول إلا لوهن أحسه.
ومن يعبث بعقله الإغراء فهو صريع الغرور لا محالة، وكم من “حمار” اعتقد نفسه عالمًا لأنهم حمّلوه كتبًا!

“الأنا” إحدى المصطلحات التي قدمها سيجموند فرويد، وهي إحدى نظم النفس الثلاثة (الأنا، والهو، والأنا العليا).

وتتكون الشخصية نتاجًا للتفاعل بين هذه الأنظمة الثلاثة وتعد الشخصية المتهورة والمندفعة نتاجًا لتعاطٍ خاطئ بين أنظمة النفس الثلاثة، ويخلّف هذا التواصلُ الخاطئُ أخطاءً كارثية؛ أهمها الغلو في الثقة بالنفس والانحراف عن العقلانية وتغير في السلوك.

سُلْطة وعظمة

قد لا تستطيع “الأنا “في بعض الأحيان أن تتحكم وتسيطر على علاقتها بالآخر وتتحدد نزعاتها السلبية على شكل أوهام وأفكار لا علاقة لها بالواقع.

البارانويا أحد الأمراض النفسية التي يصاب بها البعض، فيبالغ المرء بوصف نفسه بما يخالف الواقع، وهذا الخلل العقلي يجعل المرء يشعر بسلطة وقوة غير عادية، فيخترع أحداثا خيالية تتسق مع هذه المشاعر للهروب من الواقع الفعلي الذي يحياه.

فيدعي مثلا أنه صاحب علاقات مهمة أو أنه يمتك أموالا طائلة أو يرى في نفسه مواهب استثنائية لا وجود لها في أرض الواقع.

مقنع للغاية

من سمات الانحراف في “الأنا” الغرور والأنانية والفخر الزائد بالذات بشكل “مرضي” يفوق الواقع ويتجاوز الموضوعية، فيتصور الشخص أنه يمتلك مميزات خاصة، وسرعان ما يهرع لإقناع نفسه بأوهامه التي هي من نسيج الخيال ولا يكتفي بهذا بل يسرع إلى الآخرين ليقنعهم بها.

يتميز مريض البارانويا بقدرة فائقة على الإقناع فكلامه منمق ومنطقي ويستطيع أن يتلاعب بالمواقف والأحداث، فهو يمتلك جهازًا تفصيليًا مكونًا من مجموعة لا حصر لها من الأوهام التي ثبّتت في قناعاته أنه مستهدف من قبل الآخرين، وأن السبب الرئيس لاضطهاده هو كونه شخص ناجح وعظيم.

خوف واستخفاف

تشمل أعراض المرض أيضًا الخوف الشديد والريبة في كل المحيطين، انطلاقًا من وهم أنه أفضل من الآخرين، بالتالي تحوم حوله المشاعر السلبية وتتحدد في الشعور بالكراهية والغضب والخيانة.

وعادة ما يستخف الشخص المريض بالناس وينتقدهم بشكل مستمر، ويحقر من شأنهم، لِمَا يشعره من نقص في داخله، فمشاعر الاضطهاد تتسبب له في مزيدٍ من الشعور بالدونية فيعالجها بالتحقير والتقليل من شأن الآخرين.

جمود وعناد

للمريض قدرة عالية وفريدة على إزعاج الآخرين وإغضابهم واستفزازهم، بسبب التصرفات غير المرنة والجامدة والتي تخلق صعوبة في التعامل والتأقلم مع الآخر.

ويصعب على مريض البارانوايا الاعتراف بالخطأ أو التنازل والمسامحة والغفران فهو عنيد، ويشعر دائمًا بأنه على صواب وغيره على خطأ وكثيرًا ما تجده في موقف دفاعي للرد على الانتقادات المحتملة.

الكل متآمر

إن النقص الذي يعاني منه النرجسي يجعله دائمًا منشغل بتحليل النوايا وخبايا البشر فالكل في نظره أعداء للنجاح والكل متأمر على ما حققه من نجاحات “خزعبلية” في مسيرة حياته.

إن انحراف الأنا عن الواقع يوقع المرء في رؤية ضبابية تجعله يسقط ويدمر نفسه ذاتيًا وتكثر أخطاؤه، فهو يعيش في رعب دائم نتيجة لاقتناعه بنظرية المؤامرة التي تترسخ في اللاوعي فيكون ضحية أفكار هدامة تدور مجملها حول الخوف من الآخرين المتربصين المراقبين لأدق تفاصيل حياته.

إن الإرادة غير المتحكم فيها تقذف بالمرء في غياهب المجهول وتورطه في نزاعات وصراعات كبيرة، لاسيما إن كانت تطلعاته وطموحاته لا تتوافق وامكانياته ومهاراته الحقيقية؛ إذ سرعان ما يصطدم بالواقع ويحارب أي شخص يحاول أن يظهر هذا الخلل في شخصيته.

“التطبيل” مطلوب

يتميز المغرور بحبه لذاته وتمجيده لها باستمرار، فيقرب منه كل من يهلل له ويمجده، ويفضل “التطبيل” والإشادة بإنجازاته عن أولئك الذين يوجهون له النقد، فهو لا يعير للآخرين أي اهتمام فهو حريص على مصالحه الشخصية فقط.

نجده يقصي الآخرين من تفكيره، ويتقوقع على ذاته ورغباتها مما يجعله يفقد قدرته على التواصل الحقيقي مع الآخرين فيعرقل قدرته على الإنجاز والتميز.

ويستعمل المصاب عقله لإخفاء إخفاقاته النفسية والاجتماعية ويرتدي قناع التفوق والتميز للانفلات من الشعور بالدونية، وكثيرًا ما يكون هذا التفوق مبنيًا على أمور ثانوية “تافهة” لا تشكل إنجازات مؤثرة في المجتمع إن لم تكن مختلقة.

وكثيرًا ما ينسب نجاحات الآخرين لذاته فهو القائد المتميز الذي كان سببًا أساسيًا لأي نجاح.

تدمير ذاتي

كل هذه التصرفات هي سلاح للتدمير الذاتي؛ تحجر القلب وتلغي الاعتذار ويغرق صاحبها في حب الذات وتأليهها، وكل هذا يساهم في إغراق الذات في عالم من الأكاذيب والوهم لا صلة له بالواقع.

إذا فقد الإنسان التحكم في نظام الأنا والسيطرة على مقاصدها فإن العجرفة والثقة الزائفة والتعالي سوف تدفع بمعتنقها إلى الهاوية.

وينشأ التدمير الذاتي نتيجة تجاهل المعلومات وتناقضها ورفض تغيير الرأي والثبات على الموقف رغم وجود أسباب منطقية تدعو لذلك، كذلك رفض الاستجابة للمتغيرات وتبني شعارات وقرارات تحقق مكاسب سريعة يُدفع ثمنها غاليًا في المستقبل.

ودائمًا ما توهمنا “الأنا” أننا على صواب وغيرنا على خطأ، وهذه الأفكار تهدم الذات وتقودها إلى الهاوية، فإذا أنصتنا لأنفسنا واتبعنا ما تمليه علينا “ذواتنا” -التي لا ترضى- دون كبح جماحها، وإذا ما راهنا على المجهول وامتطينا صهوات حماقاتنا، فسنسقط في شرك أعمالنا ونرتمي في أحضان الذاتية المفرطة والأنانية البغيضة.

ربما يعجبك أيضا