الاقتراض الرخيص.. أساس الأزمات في تركيا

حسام عيد – محلل اقتصادي

الأزمة الاقتصادية في تركيا “مُركّبة” نتيجة تراكمات السنوات الماضية، وطالما لم تتم معالجة أسبابها العميقة والمتجذرة منذ عقود؛ فإن ذلك يعني استمرارها، فالبلد الذي يكافح من أجل الانضمام للاتحاد الأوروبي تغيّر في السنوات الأخيرة، وتحول معه حزب العدالة والتنمية من حزب محافظ ومؤسسة سياسية، إلى حزب الرجل الواحد.
وفي الفترة الأخيرة شهد الحليفان تركيا والولايات المتحدة الأمريكية – حسبما تصف الدولتان العلاقات فيما بينهما – توترًا متصاعدًا، بسبب اعتقال أنقرة للقس الأمريكي أندرو برونسون، والمتهم بدعمه لتنظيمات إرهابية وقيامه أيضًا بعمليات تجسس على تركيا لحساب الولايات المتحدة الأمريكية، التي عمدت إلى اتخاذ قرارات بفرض عقوبات اقتصادية، زادت من متاعب الليرة التركية.
أردوغان يكابر.. وصهره يعترف ويتوقع الأسوأ

يعتقد أردوغان أن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين وراء الأزمة الاقتصادية الأخيرة، والتي أدت إلى تدهور سعر الليرة التركية.

وفي هذا الشأن حذر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في افتتاحية نشرتها صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية ، من أن شراكة الولايات المتحدة مع تركيا قد تكون في خطر مؤكدا أن بلاده قد تبدأ بالبحث عن حلفاء جدد.
ووصف تراجع الليرة التركية إلى مستوى قياسي جديد بلغ 18% في يوم واحد خلال أغسطس الماضي بأنه “صواريخ” حرب اقتصادية تتعرض لها تركيا.
وعلى النقيض، وفي اعتراف بقتامة المشهد في تركيا، توقع براءت ألبيرق وزير المالية وصهر الرئيس رجب طيب أردوغان، أن تشهد البلاد في الأعوام المقبلة مزيدًا من التراجع في النمو والزيادة في التضخم.
وقال الوزير، إن نمو إجمالي الناتج الداخلي سيكون بنسبة 3.8% للعام الجاري و2.3% عام 2019، في تراجع كبير بالنسبة لعام 2017، الذي شهد نموا بنسبة 7.4%.
في المقابل، أفاد الوزير أن التضخم سيزداد بشكل كبير ليبلغ 20.8% في 2018، وهو مستوى غير مسبوق منذ وصول أردوغان إلى السلطة، ويتعارض مع خطة مكافحة التضخم التي أكدت عليها الحكومة.
الأسباب الحقيقية لانهيار الليرة

قبل أن يتسبب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في سقوط حر للعملة التركية “الليرة” من خلال تغريدة في العاشر من اغسطس 2018، أعلن فيها عن مضاعفة الرسوم على واردات بلاده من الصلب والالومنيوم التركي، كانت السحب تتجمع فوق الاقتصاد التركي بعد ارتفاع التضخم ليبلغ 16% وتوسع العجز في الحساب الجاري، كما تسبب أردوغان في تقويض الثقة في العملة من خلال تصريحاته المتكررة التي اعتبرها بعض اللاعبين في السوق بأنها مربكة.
ولا تكمن أزمة انهيار الليرة في العقوبات الأمريكية، ولكنها تكمن في الاقتصاد التركي نفسه، بحسب رأي الكثير من الاقتصاديين، فعلى الرغم من أن تركيا تعتبر من أفضل الدول على مؤشرات ومعدلات النمو، ففي العام الماضي كانت تضاهي الصين والهند في معدلات النمو بمستويات تجاوز الـ 7%، إلا أن معدلات النمو التركية تعتمد بشكل رئيسي على الاستدانة الخارجية، ما يعني أن تركيا تنفق وتستورد أكثر بكثير مما تنتج، ومن ثم أصبح عندها عجز.
وتعاني تركيا من عجز في ميزان تجارتها الخارجية، فوارداتها أكثر من صادراتها، ما يعني أنها تنفق أكثر مما تكسب. والعجز يجب أن يُمول إما من استثمارات أجنبية أو بالاستدانة. ولا يعتبر هذا بحد ذاته غريباً أو خطيراً، لكن العجز لدى تركيا أصبح كبيراً جداً فقد بلغ 5.5% من الدخل القومي أو من إجمالي الناتج المحلي العام الماضي.
هنالك مظهران للدين الخارجي في تركيا زاد من ضعف اقتصادها، الأول أن لديها مستوىً عالياً من الديون بعضها مستحق الدفع في القريب العاجل بالإضافة إلى الديون الجديدة، وهذا يعني بلغة السوق المالي أنه يجب إعادة تمويل الدين. وتقدر وكالة تقييم الاستثمار “فيتش” أن الحاجة المالية الكلية لتركيا هذا العام ستبلغ ما يقارب 230 مليار دولار.
المظهر الثاني يتمثل في استدانة الكثير من الشركات التركية بالصرف الأجنبي، وتُعد هذه القروض أكثر تكلفة عند إعادتها في حال انخفضت قيمة العملة المحلية وهو ما حدث بالفعل، كما صعّد ضعف العملة مشاكل التضخم المُلحّة في تركيا، فكلما ضعفت قيمة الليرة زادت تكلفة الواردات، وكان لدى المصرف المركزي هدف في الحدّ من التضخم إلى 5% العام الماضي، لكن التضخم كان أكثر من ذلك بكثير حوالي 11%. ومنذ ذلك الوقت تراجع الوضع خاصة مع غلاء الأسعار التي زادت بمعدل سنوي يبلغ قرابة 16%.
وتقدر بعض المصادر ما يفوق 250 مليار دولار ديونا على قطاع المؤسسات التركية معظمها مستحق السداد خلال سنة، و66 مليار دولار على مؤسسات قطاع خاص غير مالية، و76 مليار دولار على البنوك التركية مستحقة السداد أو التدوير خلال سنة، كما فاقت المطلوبات بالعملة الأجنبية على الشركات غير المالية الموجودات بمبلغ 200 مليار دولار.
وتقول الأرقام أن ضمنها 83 مليار دولار مصدرها البنوك في إسبانيا و 35 مليار دولار من البنوك في فرنسا و 18 مليار دولار من البنوك في إيطاليا و17 مليار دولار من البنوك في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة و 13 مليار دولار من البنوك في ألمانيا.
الاقتراض الرخيص أساس الأزمة

أزمة 2008 المالية العالمية أثرت في الاقتصاد التركي بشكل رئيس من حيث العلاقات التجارية بدرجة ما، وأدت في 2009 إلى ركود بلغ 4.8%.
ونتيجة لفترة الركود، شرعت تركيا تسعى للوصول إلى أسواق جديدة على أمل إيجاد بدائل للاتحاد الأوروبي، وهو الكتلة التجارية التي تضم الغالبية العظمى من حجم التجارة الخارجية للبلاد. أسهم إنشاء صلات تجارية مع أسواق جديدة، بالإضافة إلى ازدياد حجم الطلب المحلي والصادرات في تعافي الاقتصادي التركي.
وأعاقت الأزمة المالية العالمية استمرار معدل تضخم أحادي الرقم في تركيا، حيث ارتفع إلى 10.1% في 2008، الأمر الذي فقدت معه الليرة التركية نحو 47% من قيمتها في ثلاثة أشهر من 27 أغسطس 2008 (الدولار = 1.18 ليرة) إلى 25 أكتوبر 2008 (الدولار = 1.733)، ومنذ ذلك الوقت واصلت الليرة الانزلاق حتى بلغت في 4 نوفمبر 2016 قيمة  3.149 للدولار الواحد.
وفي أعقاب الأزمة، انكشف الاقتصاد التركي الذي كان يوصف بالاقتصاد المتحول -آنذاك- على حركة رؤوس الأموال العالمية وأفرط في الاقتراض الرخيص، الأمر الذي راكم كميات كبيرة من الديون الأجنبية قصيرة الأجل، ومن ثم حدوث تبعات وتداعيات سلبية على معدلات التضخم وخروجها من الخانة الآحادية، والتسبب في ضغوط على العملة.

واليوم مع خسارة الليرة التركية 45% من قيمتها مقابل الدولار منذ يناير 2018، فإن العديد من الشركات غير المالية تذهب للبنوك لإعادة هيكلة قروضها، وفي الواقع، أصبحت الأزمة تمتد إلى القطاع المالي، لدرجة أن البنك المركزي الأوروبي يحذر الآن من تعامل بنوك الاتحاد الأوروبي مع تركيا.
 

ربما يعجبك أيضا