الروائح.. ذاكرة “الإغواء” الصامتة

كتبت – علياء عصام الدين

رائحة الأماكن من أكثر الروائح ديمومة وثباتًا وسحرًا، يلتقطها الأنف من الأجواء فتستعمر الحواس وتجتاح الروح وتزلزل الوجدان وتثير الشجن، فهي ذلك الحضور الغائب، الحاضر بالقوة، والذي يتغلغل في المسامّ ليحفز الذاكرة ويفتح شريط الذكريات. 

طعم الحاجات/ بيعيش ساعات/ ويدوب قوام/ وقوام يفوت/ جوا القلوب والذكريات/ ما يعيش غير طعم البيوت

لم يكن غناء محمد منير عن طعم البيوت والحاجات وصفًا مبالغًا فيه لطعم الأماكن ورائحتها، كما لم يكن تعبير الروائي الفرنسي مارسيل بروست عن هذه الظاهرة في روايته “البحث عن الزمن الضائع” محض بلاغة شعرية أو مبالغة وإغراق في الوصف، فالرائحة التي اشتمتها “مادلين”، وهي تضع قطعة من الكعك في كوب الشاي لم تكن مجرد رائحة عابرة، فسرعان ما شعرت “مادلين” بأن الرائحة تنتشلها وتعود بها إلى الوراء لسنوات طفولتها المنسية.

للطرقات رائحة، للمدارس رائحة، للمدن رائحة، للكتب والأوراق رائحة، ولحقيبة المدرسة والممحاة رائحة لا تنسى.

للأماكن رائحة تشبه الزمن الذي أتت منه، تعلق في ثناياها ولا تفارقها أبدًا، فكلمة “عبق التاريخ” لم تأتِ من فراغ، فعندما نزور الأماكن الأثرية نشتم رائحة الزمن على جدرانها، فالأحياء الكلاسيكية تحتفظ بعبق الأصالة ومن خلال روائحها تحكي مبانيها قصص البيوت، لتحرضنا بقوة على السير في شوارعها لتداعب نبضات قلوبنا برفق.

الذاكرة “الشمية” هي تلك التي تتعلق بروائح معينة تعلق في الذاكرة ويصعب نسيانها بمرور السنين، وقد تكون ذاكرتنا الشمية أكثر ثباتًا من الأحداث ذاتها المرافقة لها، والتي حدثت عند الإحساس بتلك الروائح.

تقع الخزانة الضخمة للروائح والتي تحوي ذكرياتنا في منطقتين من الدماغ “النواة اللوزية” و”حصان البحر” وقد أظهرت الأبحاث التي أجريت في هذا المجال نتائج مفادها أن الذاكرة الشمية هي عبارة عن بنك للمعلومات المتعلقة بالروائح التي نشمها طيلة حياتنا، وهي ذاكرة قادرة على التجدد فتقوم بإضافة مزيد من الروائح إلى أرشيفها كلما تم الإحساس برائحة جديدة.

للأنف فتحتان متصلتان بالمخ، ويقع مركز الثقل المتعلق بالشم في الفص الأيمن من المخ، حيث تنشأ الروابط مع ما نتلقاه من منبهات شمية على جميع الحواس الأخرى، هكذا يثبت العلم أن الأنف يعشق قبل العين والأذن أحيانًا على عكس بيت الشعر المعروف لبشار بن برد “الأذن تعشق قبل العين أحيانًا”.

فالذاكرة ليست حكرًا على الأشخاص، فذاكرة المكان لا تشيخ ولا تهرم، فهي تحوي آلاف البشر تتذكرهم جميعًا ويتذكرونها، تتجمع في دفاتر الذكريات في عقلنا الباطن وسرعان ما تبعث فينا الشجن والحنين بمجرد أن تلامس أنوفنا.

الرائحة إغواء غامض صامت متعلق بالروح، وقد يكون الجذر اللغوي لكلمة الرائحة مشتق من “الروح” لأن الرائحة تهيج أرواحنا وتبعث في أساريرنا مشاعر متباينة بعضها مبهج وبعضها مؤلم.

الرائحة “بصمة” تميز كل شخص بل كل شيء، فها هو نابليون يرسل خطابًا لحبيبته جوزفين وهو عائد من المعركة كتب فيه “جوزفين لا تستحمي.. إني قادم”.

في قصيدته “رسالة حب” يخاطب نزار قباني امرأة باردة قائلًا: “أيّ حرب تتحدّثين عنها؟ فأنت لم تدخلي معركةً واحدةً مع رجل حقيقي.. لم تلمسي ذراعَهْ.. ولم تشُمّي رائحةَ صدرهْ.. ولم تغتسلي بعَرَقِه”، مصورًا رائحة الجسد والعرق كعنصرين شهيين أصيلين في العلاقة بين الرجل والمرأة.

يقول درويش :
اليــاسميــــــن
رائحـــة الذين نحبهم ولا نعرفهم
رائحـــة الغيـــاب الذي يطول
رائحـــة البحر ورائحـــة الصباح
رائحـــة الأصوات التي نحفظ
رائحـــة الأشياء الجميلة التي لم نجربها

في “حضرة الغياب” يقول أيضًا: “المدن رائحة: عكا رائحة اليود البحري والبهارات، حيفا رائحة الصنوبر والشراشف المجعلكة،  موسكو رائحة الفودكا على الثلج، القاهرة رائحة المانجو والزنجبيل، بيروت رائحة الشمس والبحر والدخان والليمون، باريس رائحة الخبز الطازج والأجبان ومشتقات الفتنة، دمشق رائحة الياسمين والفواكه المجففة، تونس رائحة مسك الليل والملح، الرباط رائحة الحناء والبخور والعسل، وكل مدينة لا تُعرفُ من رائحتها لا يُعوَّل على ذكراها”.

ربما يعجبك أيضا