“الصابئة المندائية”.. أقدم ديانات التوحيد ذات الرداء “الأبيض”

إبراهيم جابر

كتب – إبراهيم جابر:

القاهرة – جرت العادة أن ديانات التوحيد ثلاثة، لكن على حافة نهري العراق (دجلة والفرات)، كان يعيش قوم يؤمنون بالوحدانية وحياة ما بعد الموت، ويحملون في تعاليمهم “تصوفا خاصا”، وديانة يعتبرونها أقدم ديانات التوحيد وأصلها، أنهم “الصابئة المندائيون”.

شكل الصابئيون جزءًا من نسيج المجتمع العراقي حتى عام 2003 قبل أن تمزقه يد التطرف، خصوصًا بعد الغزو الأمريكي، فكانوا يسكنون المناطق السهلية والأنهار، بتراث خاص يشكلهم، ولباس أبيض يميزهم، حتى سموا أبناء “الدين الأبيض”. 

خلال هذا التقرير نلقي نظرة على الديانة الصابئة المندائية، وتاريخها وقواعدها الإيمانية، وأوجه التشابه بينها وبين ديانات التوحيد الثلاثة:

“من هم؟”

روايات كثيرة تترد عن الديانة “الصابئة المندائيون أو المندائية أو الصابئية”، حيث إن أصلها ونشأتها يحيط به “الغموض” لعدم وجود تأريخ لأصلها، لكن أبناء الديانة “المندائية” يعرفون أنفسهم بأنهم أصحاب أقدم ديانات التوحيد في التاريخ الديني، ويعلنون إيمانهم بأن الله واحد ويؤمنون بالنبي آدم وشيت وسام  بن نوح وخليل الله إبراهيم، ويعتبرون أن آخر أنبيائهم “يوحنا المعمدان” يحيى بن زكريا.

ويشتق اسم الصابئة من الفعل الآرامي “صبا”، والذي يعني بـ”تعمد أو اصطبغ أو غطس في الماء” والذي يعد أهم طقوس الديانة الصابئة كما أنه أحد العوامل المشتركة بين الديانة القديمة والمسيحية، ولكنها في المسيحية تكون مرة واحدة لكنها في المندائية تتكرر كثيرا في أعيادهم وطقوسهم المعتادة.

ويقصد بـ”الصابئ” في اللغة العربية الخارج، أي “الشخص الخارج عن ملة قومه، واتبع دينًا أخر”، وقد سمى “الصابئة” على أنفسهم “المندائيين”، وهي صفة مشتقة من الكلمة الآررامية “مندأ” بمعنى “العلم والعرفان”، وتعد لغتهم هي إحدى اللهجات “الآرامية – البابلية”.
وكان يبلغ عدد المندائيين حوالي 100 ألف في العراق بخلاف بضع آلان في منطقة الأحواز بإيران، قبل أن تفرقهم العمليات الإرهابية وتعاليم التشدد إلى مناطق ودول أخرى ليسوا من أهلها.

“نشأة الصابئة”

اختلفت الروايات حول نشأة الديانة الصابئة، حيث انتهت إلى احتمالين، الأول بـ”نهم سكان نهري (دجلة والفرات) وورقوا الكثير من الميثولوجيا البابلية، وتأثروا بالديانة اليهودية بحكم تجاورهم مع اليهود الذين سكنوا المنطقة ذاتها، وأيضا بالمسيحية بسبب الاحتكاك بـ(النساطرة) المسيحيين”.

وذكر أن الصابئة ارتبطوا بنبيي الله آدم وإبراهيم، حيث يقولون إنه كتابهم المقدس “كنزا ربا” أو الكنز الكبير كما يطلق عليه في بلاد الرافدين يوجد به صحف أول الخلق “أدم”، إضافة إلى ارتباطهم بالخليل إبراهيم والذي احتفظوا بصحفه وأيضا مارسوا طقوس التعميد التي سنها، كما قيل أن جزءًا منهم ارتحلوا معه إلى مدينة حران في سوريا.

وأوضح الاحتمال الثاني أن المندائيين هم سكان منطقة “البحر الميت” أما في فلسطين أو شرق الأردن، وأنهم كانوا يتعمدون حتى قبل انتقالهم إلى جنوب العراق.

“قواعد إيمانية”

وفق الكتاب المقدس للمندائيين، فإنهم يؤمنون بوحدانية الله، ويسمونه بأسماء مثل “الحي الأزلي والمزكي والمهيمن والرحيم والغفور والحي العظيم”، إضافة إلى أن التعميد جزء أساسي في ديانتهم والتي يتقابلون فيه مع المسيحية، علاوة على أن الصلاة جزء من عقيدتهم، والصيام والصدقة.

وتقول المندائية: “إن الله الحي العظيم انبعث من ذاته وبأمره وكلمته تكونت جميع المخلوقات والملائكة التي تمجده وتسبحه في عالمها النوراني، وإنه كذلك بأمره تم خلق آدم وحواء من الصلصال عارفين بتعاليم الدين الصابئي وقد أمر الله آدم بتعليم هذا الدين لذريته لينشروه من بعده”.

“كتب الصابئة”

تنتظم طقوس الديانة المندائية من عدة كتب تنقسم إلى ثلاث مجموعات: الأولى مقتبسة من كتابهم المقدس “كنزا ربا”، أو يسمى أيضًا “سِدرا إِدْ آدم” أي صحف ادم، ويجمع صحف انبياء الله الصابئة آدم، شيت بن آدم وأنوش بن شيت وإدريس ونوح وإبنه سام وإبراهيم وزكريا ويحيى آخر انبياء الصابئيين والذي يتألف من جزئين يمين وشمال، الأول يحمل التعاليم والتحذيرات والوصايا وقصة الخلق والنشوء والمستوحى من صحف آدم وشتيل بن آدم (شيث) ونبي الله إدريس، والثاني يضم قصص رجوع وعروج النفس إلى موطنها الأصلى “الحياة قبل وبعد الموت”.

وتضم المجموعة الأولى أيضا، عدة كتب، هي: “دراشا إد يهيا أي دروس النبي يحيى بن زكريا، وديوان أباثر (ديوان الملاك أباثر) وآلما ريشايا ربا وآلما ريشايا زوطا”، والذين يشرحون حال الدنيا والحياة بعد الموت، علاوة على عدد من الدواوين الصغيرة.

وتشمل كتب المجموعة الثانية: “الأجزاء المتعلقة بالمراسم والطقوس الدينية لدى المندائية، والتي تحوي: “(سيدرا إد نشماثا) وتعني (كتاب الأنفس) والمعني بشكل رئيسي بطقوس التعميد، ومراسم الزواج، فضلا عن كتاب (القلستا) والذي يضم الأدعية والتراتيل والصلوات، ويضم تراتيل ونصوص الصباغة الصابئية، والزواج، وكتاب الصلاة العظيمة (قداها ربا) وكتاب (الف وتريسار شيّاله) والذي يتضمن الأخطاء التي يرتكبها رجل الدين، وجزء منه التقويم المندائي السنوي”.

وتحوي كتب المجموعة الثالثة، الأجزاء الخاصة بالمعرفة والتاريخ، وهم: “كتاب تحديد أوقات الشر للناس والمدن؛ وحران كويثا الذي يستعرض هجرة بعض الناصورائيين، وبعض التواريخ للأحداث الفلكية السابقة واللاحقة”.

“الأديان السماوية”

تتشابه الديانة الصابئة، مع العديد من الأديان السماوية الثلاثة، فتشابه مع الإسلام في أن عدد أركانها خمسة، وهي: “الشهادة والتوحيد والاعتراف بأن الخالق واحد لا شريك له، والتعميد (الصباغة)، والصلاة (تؤدى ثلاث مرات يوميا صباحا وظهرا وعصرا)،  والزكاة (الصدقة) والصوم (والذي يكون 36 يوما طوال العام يمتنعون فيه عن أكل وذبح الحيوانات”.

وتتقابل الديانة الأقدم مع الديانات السماوية الثلاث مجمعة في العديد من النقاط، تتمثل أغلبها حول “التوحيد والحياة بعد الموت وتحريم السرقة والزنا والكبائر”، إضافة إلى الصيام والصلاة رغم اختلافها في التنفيذ، علاوة على أنه لا يجوز الزواج فيها من شخص يؤمن بدين آخر.

وتتفق الصابئة مع الإسلام في العديد من أركان العقيدة بخلاف العدد، وإن كان التنفيذ مختلفا بعض الشيء، “فالتوحيد ركن أساسي في الدين، إضافة إلى الصيام وأن كان أكثر تشابها مع المسيحية، وأيضا في وجوب (الزكاة) والتي تعد في المندائية (الصدقة) ويشترط فيها في الصابئة عدم الإعلان عنها”.

وذكرت الصابئة في القرآن الكريم، في ثلاث آيات، منهم: “(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة/62، والثاني في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) الحج/17”.

وذكر نبي الإسلام محمد بن عبد الله في كتاب “كنزا ربا”، في موضعين: “أحدهما في أحاديث النبي آدم في الموضع الذي يتحدث عن نهاية العالم وما سيحدث من خراب ودمار وصراعات وانقسام الطوائف، والثانية على لسان نبي الله يحيى والذي تحدث عن أنه سيكون من أحفاد النبي إسماعيل بن إبراهيم شخص يتولى النبوة سيحكم العرب ويدعوهم للإيمان والسجود”.

وتلتقي الصابئة مع المسيحية بخلاف نقطة التعميد في رفض الطلاق إلا في حالات خاصة جدا، كـ”إثبات الزنا وخيانة المعشر والخروج من الملة والموت”، إضافة إلى الصيام والذي يجيز تناول الأكل إلا الحيوانات والأسماك.

وتعتبر الديانة الصابئة أقرب إلى اليهودية، فالصابئة يعتبرون أن اليهود منشقون عنهم ويسمونهم باللغة المندائية (يهوطايي) ومعناها المخطئون، وتشير كتبهم إلى أن النبي يحيى عليه السلام كان يدعوهم للتوبة والرجوع للتعاليم الأول، وأن اليهود حرفوا كتابهم المقدس “كنزا ربا” وجعلوه التوارة.

وقد ذكر في بعض الأبحاث أن التشابه يعود إلى سكن الصابئيين مع اليهود في مكان واحد، ويقتربان معا في أن الصلاة 3 مرات يوميًا، ويتفقان أيضا في أن الرجل غير المتزوج يعد ناقصا وغير كامل دينيا وروحيا، وأن من يعيش بلا زوجة لا جنة له. 

ويعد الصابئة واليهودية متفقان في جزء أساسي في معتقدهم أنهما ديانتان غير تبشيريتين، وإن كان ذكر أن الصابئة حرموا التبشير بعد تعرضهم للاضطهاد من قبل السلطة الدينية اليهودية والسلطة الزمنية المتمثلة بالحكم الروماني المستعمر لفلسطين آنذاك.

“اضطهاد مستمر”

عانى أبناء الطائفة الصابئية عبر تاريخهم الطويل من اضطهاد، والذي كان بدايته في العصر الروماني، وتستمر معاناتهم حتى الآن، ولم تعترف أي دولة بديانتهم سوى العراق، والتي عانوا بها من التهميش رغم أنهم لم يلاقوا أي تهديد أو اضطهاد ديني خلال حكم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين والفترة التي تلتها بعد الغزو الأمريكي لبغداد، حيث لم يحصلوا على أي مناصب حكومية رغم أن عددهم اقترب حينها من 100 ألف شخص، ولم يحصلوا سوى على مقعد واحد في البرلمان الذي تأسس بعد الغزو العراقي.

ويواجه أبناء “الصابئة” شائعات عدة في المناطق التي يسكنون فيها، حيث يقول البعض أنهم يعبدون الكواكب والنجم الأعظم، وأن ديانتهم وثنية رغم أن دينهم مبني على التوحيد ويؤمنون بعدد من الأنبياء، ويرفض البعض مصافحتهم يصفونهم بالأنجاس، كما يدعون أنهم يخنقون الحيوانات، وموتاهم حين “يحتضرون”.

واضطر المندائيون إلى النزوح من موطنهم الأصلي قرب نهري دجلة والعراق إلى مناطق ودول أخرى، بعد ظهور التنظيمات الإرهابية وانتشار التطرف الديني في الحقبة التي تلت الغزو. 

وقال الشيخ جبار ستار حلو زعيم الطائفة المندائية في العراق إن المندائيين بعد انتشار العنف في العراق في 2003 سعى العديد من الناس إلى إفراغ بلاد النهرين من قوميتها وديانتها التي تعيش بها منذ آلا النسين، ما أدى إلى انخفاض أعدادنا من حوالي 100 ألف إلى 7 آلاف فقط.

وذكر المندائي حسام هشام العيداني أن أبناء طائفته لم يكونوا يعانون من اضطهاد سوى بعد انتشار المتشددين بعد الغزو الأمريكي، وأن الصابئيين هجروا منازلهم بالقرب من نهري دجلة والعراق إلى مدن كركوك وآربيل ومحافظات أخرى، كما اضطر بعضهم إلى النزوح عن العراق كلها، مشيريا إلى أن الموجودين في إيران مازالوا يسكنون في الأحواز.

ربما يعجبك أيضا