زكي نجيب محمود.. من “الوضعية المنطقية” إلى “الأصالة والمعاصرة”

محمود سعيد

رؤية – محمود سعيد

هو أحد كبار فلاسفة العرب، في العصر الحديث، وقد وصَفَه الأديب عباس محمود العقاد بأنه “فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة؛ فهو مفكِّرٌ يصوغ فكره أدبًا، وأديبٌ يجعل من أدبه فلسفة”.

قد أعلن “توبته” قبل موته أمام ثمانين أستاذاً من أساتذة كلية أصول الدين بالقاهرة متراجعا عن الكثير من الأفكار التي روج لها في بداية عمره، وهو لم يكن الأول في عودته وإنابته، فقد رجعت كذلك قامات فكرية، كالدكتور عبدالرحمن بدوي وحمد عبدالكريم المرزوقي وغيرهم.

ولم يكن مشروع زكي نجيب الفكري والنهضوي في مرحلته الأخيرة يهدف لتغريب الأمة كما زعم البعض خصوصا بعدما اتجه في مرحلته الأخيرة للاغتراف من ينابيع الأمة وتراثها الحضاري، بل لم يكن من هدف، سوى الحفاظ على الإسلام وتراث الأمة وقيمها الحضارية، مع التواصل مع المنجزات العلمية للحضارة الغربية، فهو يقول: “إذا كان الغرب قد قصروا في المحافظة على نفوس الأفراد وقلوبهم، فذرنا نحن – ارتكازا على تراثنا وعقائدنا- أن نعلمهم كيف يمكن المشاركة في مقومات العصر كلها، مع الحفاظ على إنسانية الإنسان”.

ويرى زكي نجيب محمود أن شمولية الإسلام وصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، أو كونه خاتم الأديان، إنما يرجع إلى استناد الإسلام إلى العقل باعتباره أداة الإدراك، التي يتم بها استخراج الكنوز بها من القرآن الكريم التي تضيء الطريق للآخرة.

نشأته

وُلِد زكي نجيب محمود في قرية ميت الخولي عبد الله بمحافظة دمياط في أول فبراير سنة ١٩٠٥م، والتحق بكُتَّاب القرية، وعندما نُقِل والده إلى وظيفةٍ بحكومة السودان أكمَلَ تعليمَه في المرحلة الابتدائية بمدرسة كلية غوردون، وبعد عودته إلى مصر أكمَلَ المرحلةَ الثانوية، ثم تخرَّجَ في مدرسة المُعلمين العليا بالقسم الأدبي سنة ١٩٣٠م، وفي سنة ١٩٤٤م أُرسِل في بعثةٍ إلى إنجلترا حصل خلالها على بكالوريوس الشرفية من الطبقة الأولى” في الفلسفة من جامعة لندن؛ لينال بعدَها مباشَرةً درجةَ الدكتوراه في الفلسفة من كلية الملك بلندن سنة ١٩٤٧م.

وبعد عودته إلى مصر التحق بهيئة التدريس في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، وظل بها حتى أحيل على التقاعد سنة (1385 هـ= 1965م)، فعمل بها أستاذًا متفرغًا، ثم سافر إلى الكويت سنة (1388 هـ= 1968م) حيث عمل أستاذا للفلسفة بجامعة الكويت لمدة خمس سنوات متصلة.

أطوار حياته الفكرية

شهدت حياة الدكتور زكي نجيب محمود تحولات فكرية كبيرة انعكست بشكل كبير على انتاجه الفكري ومؤلفاته العلمية، ففي شبابه انشغل بنقد الحياة الاجتماعيّة في مصر وتقديم نماذج من الفلسفة القديمة والحديثة ثم كانت رحلته إلى أوروبا.

مع عودته من أوروبا وتأثره الكبير بما شاهده فيها والصدمة الحضارية، بدأ يدعو في الخميسنيات والستينيات، إلى تبني الرؤية الغربية الأوروبية في الحياة باعتبارها “حضارة العصر”، وأن تكون القيم الأوروبية هي السائد في المجتمعات العربية، وقد دعا إلى “الفلسفة الوضعية المنطقية”، وصار جنديا لها وعمل على الدعوة إليها، في كل المنابر الإعلامية التي كان يكتب بها.

خطورة “الفلسفة الوضعية المنطقية”، أنها تدعو إلى “سيادة منطقة العقل”، وبالتالي تدعو إلى رفض الموروث الثقافي الإسلامي والعربي، وقد كتب خلالها كتب مثل، “الفلسفة الوضعية” و”خرافة الميتافيزيقا”، وهي كتب تحمل أفكارا خطيرة مناقضة لموروث الأمة الثقافي.

أمَّا مرحلته الأخيرة، ومع هزيمة 1967م وصدمة النكسة، فقد تراجع عن “فلسفته الوضعية المنطقية”، وبدأ ينهل من التراث العربي والإسلامي ويبحث فيه، وبدأ يوازن بين الروح والمادة والقيم والعلوم، والحدس والعقل، وقد أدرك تماما الإدراك أن الحل الحضاري للعرب والمسلمين يتمثل في دمج الأصالة والمعاصرة، وقد اعترف صراحة أنه كان يجهل بشكل تام التراث الإسلامي والعربي للأمة.

شهادات

يقول الدكتور اليماني الفخراني: “إن الدكتور زكي نجيب محمود أحد أقطاب مدرسة الإحياء والتجديد الإسلامي في العصر الحديث ، تلك المدرسة التي أسسها الافغاني مع ميول عقلية ثورية سياسية، وتلمذه النجيب الإمام محمد عبده مع ميول تعليمية إصلاحية، وتلمذيه الأثري السيد محمد رشيد رضا مع ميول نحو تهذيب المدرسة بالآثار النبوية، … وزكي نجيب محمود مع ميول فلسفية منطقية علمية”..

يقول الباحث أحمد تمام: نجح في تقديم أعسر الأفكار على الهضم العقلي للقارئ العربي في عبارات أدبيَّة مشرقة، وفكَّ أصعب مسائل الفلسفة وجعلها في متناول قارئ الصحيفة اليوميَّة، واستطاع بكتاباته أن يُخرج الفلسفة من بطون الكتب وأروقة المعاهد والجامعات لتؤدِّي دورها في الحياة.

رؤية إسلامية

يقول زكي نجيب محمود  في كتابه العبقري “رؤية إسلامية”: “يَكون القَولُ تَشاؤُمًا لَو أنَّنا زَعمْنا أنَّ طاقةَ الإبْداعِ فِينا قَدِ اقتُلعَت مِن نُفوسِنا اقتِلاعًا، لكنَّ حَقِيقةَ الأَمرِ فِينا هِي أنَّ تِلكَ الطَّاقةَ في كُمُونٍ يُشْبهُ كُمُونَ الحَياةِ فِي حَبةِ القَمْح وفي نَواةِ التَّمْر، حتَّى إذا ما شاءَ لها فالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى أنْ تَنزاحَ عَن مَحابِسِها أقْفالُها تَوقدَتِ الشُّعلةُ مِن جَدِيد، وأوَّلُ خُطوةٍ على الطَّريقِ هِي أنْ تُنفَخَ فِينا إِرادةُ أنْ نَحْيا، ثُمَّ يُضافُ إلى ذَلِك إِرادةُ أنْ تَكُونَ حَياتُنا حَياةَ السَّادةِ لا حَياةَ العَبِيد: سِيادَةً فِي العِلْم، سِيادَةً فِي الفِكْر، سِيادَةً فِي الأَدبِ والفَن، سِيادَةً بالإِباءِ وبالكِبريَاء”.

وقد بحث بشكل علمي ومستفيض أسباب تراجع العالَم الإِسلامي، وكيف بعد أن كانت الأمة الإسلامية في الرِيادة لقرون طويلة أَصبحت تتسول العلم والتكنولوجيا، ولم يكتف بذلك وإنما قام بوضع الحلول والأدوات والخطوات الواجبة حتى تخرج الأمة من هذا التيه، موضحا أن استخدام العقل بِشكل رئيس في حَياتِنا العلمية والعملية، وداعيا إلى الْتماس وسائل العلم والمعرفة من مظانها المختلفة، ومبينًا دور “حملة الأَقلام” في تَغييرِ هذا المناخ الفكري الذي نعيشه، متقفيا خطى فلاسفة الأمة القدماء فِي ذلك، خصوصا أن هؤلاء الفلاسفة كانوا أيضا من الفقهاء والعلماء المسلمين.

ويختم كتابه بالحديث حول ما سمَاه “دَوائر الانتماء الثلاثة” حيثُ انتماء الفَرد إلى وطنه أولا، وعروبته ثانيا، وعالمه الإِسلامي ثالثا، وهذا التَدرج في المسئولية وليسَ في الأَهمية، .

وقد دعا أن يكون إسلام الأمة في هذا العصر كما كان إسلامها زمن تقدم الحضارة الإسلامية خصوصا فيما يختص بالحياة العلمية، فقد كان عالم الفيزياء أو الكيمياء أو الطب مسلما وعالما، بمعنى أن اهتمامه بالفرع الذي يهتم به من فروع العلم الرياضي والطبيعي كان جزأ من إسلامه، أو بعبارة أخرى كانت العبادة عنده ذات وجهين يعبد الله بالأركان الخمسة ويبحث في خلق السماوات والأرض وما بينهما كما أمره القرآن الكريم، وبهذه النظرة يكون مخرج المسلمين من مأساتهم الحالية.

يقول عنه الأكاديمي العراقي إبراهيم خليل العلاف: “كان صاحب أسلوب أدبي متماسك وأنيق ، يخلق صلة بين الوعي الفلسفي والذوق الأدبي ومن هذا المنطلق قدم زكي نجيب محمود سيرته الذاتية في ثلاثة كتب هي: قصة نفس، وقصة عقل، وحصاد السنين الذي أصدره سنة 1991م، وهو آخر كتبه، وتوقف بعدها عن الكتابة، بعد أن شعر أنه أدى رسالته ولم يعد لديه جديد يقدمه، . هذا فضلا عن ضعف بصره الذي اشتد عليه ومنعه من القراءة والكتابة. وظل على هذا الحال حتى وفاته رحمه الله”.

وقد تُوفِّي بالقاهرة في ٨ من سبتمبر سنة ١٩٩٣م عن عُمرِ ثمانٍ وثمانين سنة، بعد أن ترك بَصماتِه البارزةَ في حياتنا الفكرية ورؤيتنا الفلسفية.

من أقواله

“الحياة عبئها ثقيل على من أصابه في الحياة خذلان”.

“موقف الحياد هو موقف العاجز الذي يريد لنفسه السلامة والهدوء”.

“يوجد فرق بين رجلين: رجل يرى الحق فتكفيه الرؤية، ورجل يرى الحق فلا يستريح له جنب حتى يغير الحياة وفق ما رأى”.

“إنك تقرأ لتضيف إلى عمرك المحدود عشرة أمثال أو مائة أو ألفاً بحسب القدر الذي تقرؤه والطريقه الي تقرأ بها لماذا؟ لأنك خلال عمرك المحدود ستجمع خبرات وأفكار عن العالم وعن الناس وعن حقيقه نفسك لكن تلك الخبرات والأفكار سيكون مداها مرهوناً كذلك بعدد السنين التي كتب لك أن تحياه”.

(أسّ البلاء في مجال الفكر هو أن يجتمع السيف والرأي الذي لا رأي غيره في يد واحدة، فإذا جلا لك صاحب السيف صارمه، وتلا عليك باطله، زاعماً أنه هو وحده الصواب المحض والصدق الصراح، فماذا أنت صانع إلا أن تقول له “نعم” وأنت صاغر).
 

ربما يعجبك أيضا