عندما تلقي الصحراء بظلالها على أرواحنا نصبح أخف حملًا

شيرين صبحي

رؤية- شيرين صبحي

هل سرت يومًا وسط الصحراء سعيا لتطهير روحك تحت شمسها الحارقة، بحثا عمن يعيد بعثك من جديد، لتصبح أخف حملا؟ وسط الفضاء الشاسع الممتد أمام عينيك بلا نهاية، تشف روحك وأنت تنظر إلى النجوم القريبة التي ترسل إليك بمحبة السماء.

بعد مساحة هائلة تقطعها في الصحراء يصاحبك فيها لون الرمال الأصفر؛ تطل عليك رؤوس النخيل الخضراء كواحة أو قطعة من الجنة تستعد لاستقبالك. ماء رقراقا يروي عطشك بعد طول ظمأ. وفراشا تخدع إليه بعد طول سهر. تلقي بظلالها على روحك قبل جسدك. وتهدهد نفسك لتحل السكينة مكان القلق.

ساعات وساعات تقضيها وأنت في طريقك إلى الوادي الجديد. قد لا يغريك الذهاب. وقد يتعبك طول الطريق، لكنها حتما تستحق منك هذا الجهد، وستخبرك أنك كنت مخطئا لأنك لم تطأها كل هذا الوقت. وستلح عليك الفكرة: لماذا لا أكمل حياتي هنا؟!

600 كيلو تقطعها من القاهرة حتى تصل الصحراء البيضاء، التابعة لواحة الفرافرة، إنها الجانب الخفى للسياحة المصرية الممتعة، كما وصفها تقرير لموقع ” Trip Advisor “.

الصخور الطباشيرية البيضاء التي نحتتها الرياح عبر ملايين السنين، هي ما اكسبت تلك الصحراء اسمها، والتي تتعدد أشكالها لتشبه الحيوانات والطيور، وأشهرها صخرة الفرخة، وتشبه دجاجة صغيرة تستظل بشجرة.

ويعتقد الباحثون أن الصحراء البيضاء كانت قاع محيط قبل ملايين السنين، بسبب العثور على قواقع بحرية وأجزاء كبيرة من الشعاب المرجانية المتحجرة.

الفرافرة

بخطوات مترددة خجلة اقترب نحوي رجل بسيط، قائلا: “هالو”. قلت: “هالو”. مد إلى يده وكرر “هالو”. مددت يدي أنا الأخرى بالسلام وقلت: ازيك. سلم ثم ابتعد وضحك طويلا مع صديقه. ضحكت أنا الأخرى بدوري، ويبدو أن نظارتي الشمسية مع الطرحة المعقوصة للخلف أوحت له بأني أجنبية. وكأن الواحة تتلهف إلى الغرباء الذين لا يأتون إلا قليل.

إبل ونخيل وبيوت طينية ورجال كبار السن، وسيدات ينسجن مشغولاتهن، هو ما تواجهه على حوائط متحف الفنان بدر عبدالمغني، الذي خشي من اندثار تراث واحته التي يعشقها، فقرر أن يحول منزله إلى متحف، مستخدما الطين والحجر والرمل، لرسم ونحت الحياة التقليدية التي عاشها الآباء والأجداد.

يضم المتحف 12 غرفة، تروي كل منها مشهدا من مشاهد الحياة اليومية؛ طبيعة الأعراس، طقوس مغادرة الحجاج إلى الأراضي المقدسة، الأنشطة اليومية لكبار السن، نماذج للمشغولات اليدوية التي تقوم بها النساء. أما القيود التي واجهها الفنان والظروف الصعبة التي مرت به، فمثلها على شكل جداريات ولوحات وتماثيل، وضمها داخل غرفة أطلق عليها اسم “غرفة الأحزان”.

ينقضي النهار سريعا، ويأتي الليل في حلة بديعة حيث حفلات السمر. يلتف السامرون حول ركية النار. يجتمع ما يقرب من خمسة أشخاص أحدهم يغني، ويدق الآخرون على الطبل والدف وينفخون المزمار، بينما يحزم أحدهم وسطه ويرقص وسط الأكف الملتهبة بالتصفيق.
آثار وعيون

صحراء ووديان وآثار من عصور مختلفة، عيون كبريتية تحيطها أشجار النخيل، وتمور وزيتون؛ هو ما ستجده في كل واحة من واحات الوادي الجديد.

أهم ما تشتهر به واحة “الداخلة” هي قرية القصر الإسلامية، وكانت أول قرية استقبلت القبائل الإسلامية عام 50 هجرية. وهي مقامة على أنقاض رومانية، ويقال أنها سميت بهذا الاسم لوجود بقايا قصر روماني قديم تحت أطلال القرية، والذي استغلت بعض أحجاره في بناء واجهات المنازل القديمة.

و”القصر” هي المدينة الإسلامية الوحيدة الباقية على حالتها من العصر العثماني، فتحمل نفس الأبواب والشبابيك والأعتاب. والمدينة كبيرة جدا مساحتها 34.5 فدان، بها ما يقرب من 650 منزلا، ومازال بها بقايا مسجد يعود إلى عام 50 هجرية.

أسست عمارة المدينة لتكون عمارة دفاعية، حيث تعرضت الواحات للغزو من ناحية الغرب الليبي ووقعت تحت الاحتلال السنوسي. لذلك أحيطت وقت بنائها بسور من الأربعة جهات. وهي عبارة عن حارات وأزقة، كل حارة لها باب كبير يغلق عليها وتضم أربع عائلات، أما درجة الحرارة داخل المدينة فهي أقل بـ13 درجة مئوية عن الخارج.

وكانت المدينة ملتقى الحجاج الآتين من بلاد المغرب، حيث كانوا يرتاحون بها قبل استكمال مسيرتهم. وتعتبر مئذنة الشيخ نصر الدين من أشهر المآذن في الواحات، وهي عبارة عن برج مراقبة ومئذنة في نفس الوقت.

تضم المدينة معصرة للزيتون، ومدرسة لتعليم القرآن استخدمت كمحكمة في العصر العثماني والمملوكي، بها صحن واسع، ومكان للقاضي، وكانت تحتوي على مكتبة للكتب القديمة، وبها غرفتين كان يتم استخدامهما كسجن للمجرمين.

من الآثار الأخرى بالداخلة، توجد مقابر “المزّوقة”، التي تعود إلى العصر الرومانى، وتضم مقابر منحوتة فى الصخر، تزين جدرانها نقوش بألوان زاهية تمثل الآلهة وتتحدث عن الحساب والعقاب. وبها مقبرتين الأولي لـ”بادي أوزير” ومعناه “عطية الإله أوزير”، الذي كان حاكم المنطقة، وتتكون من حجرتين متداخلتين عليهما طبقة من الجص. وتخص المقبرة الثانية “بادي باستت” وتعني “عطية الإله باستت”، تتكون من حجرة واحدة منحوتة عليها نقوش توضح موسم حصاد القمح والآلهة المصرية القديمة.

هيبس والبجوات

تودع “الداخلة” بجمالها الفريد، لتذهب إلى “الخارجة” عاصمة “الوادي الجديد”، التي تضم عدة معابد، أهمها معبد هيبس، الذي شيد من الحجر الرملي، لعبادة الثالوث المقدس “آمون- موت -خونسو”، وهو يمثل العصور “الفرعونية، الفارسية، البطلمية، والرومانية”، حيث أضيفت إليه إضافات عديدة في عصور مختلفة.

الواحات قديما كانت كالمنفى لبعد مسافتها، هذا ما جعلها ملاذا للمسيحيين الأوائل الذين هربوا من الاضطهاد الروماني، واستقروا في الصحراء، تاركين آثارهم التي حفظتها الصحراء لجفاف جوها. خلف معبد هيبس، تقع مقابر البجوات، وهي مجموعة من المقابر الأثرية المسيحية التي يرجع تاريخها من القرن الثاني الميلادي إلى القرن السابع الميلادي، وكلمة “جبوات” تحريف لكلمة “قبوات” جمع “قبو”، حيث تعلو كل المقابر قباب، وهي مبنية من الطوب اللبن، وتمثل المسيحية المبكرة، والاضطهاد العقائدي في القرون الأولى.

تشبه “البجوات” المدينة المهجورة، وتضم 263 هيكلا أكثرها مزخرف من الخارج وقبابها مزينة بمشاهد مختلفة من التوراة والمناظر المسيحية، ويوجد داخل العديد من هياكلها كتابات باللغات الإغريقية واللاتينية والقبطية والعربية.

يضم المكان كنيسة “السلام”، التي تؤرخ للقرن الخامس أو السادس الميلادي، ويزخرف قبة الكنيسة رسومات عديدة من الكتاب المقدس، مثل رمز السلام، رمز الصلاة، دانيال في جب الأسود، قصة سيدنا نوح وعائلته بعد الطوفان، السيدة مريم، آدم وحواء، قصة إبراهيم ومحاولة ذبح ابنه وكبش الفداء، وقصة يعقوب.

أما كنيسة الخروج، فتصور قصة خروج بني إسرائيل من مصر يتعقبهم فرعون وجنوده، إضافة إلى بعض قصص العهد القديم.. وبجوار تلك المقابر المهجورة عثر على بقايا مساكن عين سعف التي كانت المساكن الرئيسية للبجوات.

تنتشر في الوادي الصناعات اليدوية التي تشهد على براعة صانعيها، من سجاد، لوحات ومنحوتات رملية، خزف، وغيرها إضافة إلى الصناعات المتعلقة بالتمور والذي يتم تصديره للخارج لجودته العالية. يتفاخر أهل الوادي كل منهم بواحته ويعتبرها الأجمل بين الواحات الأخرى. وإذا زرتهم أنت نفسك لن تستطيع المفاضلة بينهم وسيتعلق قلبك بكل التفاصيل والأماكن التي مررت بها.

تنتهي الرحلة ولا تنتهي كنوز الوادي الجديد التي تمثل 44% من مساحة مصر (440 كيلو متر) ولا يسكنها سوى أقل من ربع مليون نسمة (234 ألف نسمة في آخر إحصاء). هناك تشعر بالبراح والهدوء مع جمال الطبيعة التي تحيطك من كل جانب، تسعى المحافظة إلى جذب السكان وتوفير الأراضي لتعميرها وزراعتها. إذا قررت الذهاب يوما ستشعر برغبة أكيدة في البقاء هناك، تتذوق حلو تمر الوادي، وتتنفس هواء فجره الصافي، وتبتعد أخيرا عن الزحام..!
 

ربما يعجبك أيضا