في حضرة الفيلسوف الزاهد والطبيب العالم.. فلنهرب إلى حيث نجد أنفسنا

هالة عبدالرحمن

كتب – هالة عبدالرحمن

فلنهرب إلى حيث نجد أنفسنا.. فلنهرب حيث لا حدود ولا قيود ولا قضبان ولا سجون، عالم سُمح فيه للروح أن تعيش بلا رياء دون نفاق، ودون جشع دون طمع ولكن السؤال الحتمي هل سيكون هناك بشر ؟ هذا السؤال وأسئلة أخرى كثيرة فتح بها عقول الكثير من مريديه، انتقل بهم من مرحلة الواقع الأليم إلى الخيال الجميل وحلق بعقولهم في آفاق العلم والإيمان وزرع فيهم دون قصد بذرة التدبر في خلق الله والوعي ببواطن أمور الخلق .

برع الدكتور مصطفى محمود في الربط بين الواقع بتفاصيله الأرضية، والتعبد في محراب العقيدة والفلسفة وهو ما يقدمه للقارئ دون نغمة نشاز أو بتر، وإنما يقدمه في حالة إنسيابية متصلة من الكلمات والتي نجدها في الكثير من أعماله الأدبية وتمر ذكرى ميلاد المفكر الملهم مصطفى محمود ( 27 ديسمبر 1921 )، وهو المفكر والطبيب والكاتب والأديب المصري، الذي تم اختياره ضمن أكثر مائة شخصية مؤثرة في القرن العشرين.

معركة الروح الجسد..البقاء لمن؟

وألف الدكتور مصطفى محمود 89 كتاباً منها الكتب العلمية والدينية والفلسفية والاجتماعية والسياسية، بالإضافة للحكايات والمسرحيات وقصص الرحلات، ويتميز أسلوبه بالجاذبية مع العمق والبساطة، ففي كتاب “الروح والجسد” حيث تحدث عن الصمت والروح والجسد والماء والحب والصدق والكذب والجنة والجحيم والأصنام وغير ذلك الكثير مما أدخلنا في عالم “مصطفى محمود” الفريد ومنحنا جرعة مكثفة من الروحانيات المدعومة بحقائق الواقع والعلم.

ليوصلنا في النهاية إلى أن الروح والجسد، طرفان نقيضان يتصارعان وبينهما يعيش الإنسان في كبد تحلق به الروح في علياء المعاني السامية ويقيده الجسد الفاني بأغلال محكمة من شهوات ورغبات، هذا الصراع الذي تكلم فيه رجال الدين والفلاسفة والمفكرون والمتصوفون.. وحسمه لصالح الروح الأنبياء ومن خطا على نهجهم، ولكن ماذا نعرف عن هذا الصراع ودواخله؟.. قد يكون الكثير و قد يكون أقل القليل.

كبوة الفيلسوف مع “الله والإنسان”

وحاول الفيلسوف الابتعاد بقرائه ومحبيه عن “دبش” الفلسفة الثقيلة الذي يبعث على الصداع لأن الأدب في نظره كالحياة معرفة وإمتاع، وهو ما نقله في كتاب “الله والإنسان” قائلا: “إن الحياة ليست سكة واحدة مؤدية إلى مكة كما يعتقد البعض ولكنها خمس سكك متقاطعة مرصوفة بالخمر والزهر والدم والعرق والدموع خمس سككك تؤدي إلى خمس أرباب يحكمون عقول الناس في الأرض فأي رب من هؤلاء تعبد”، لذلك كان كتاب” الله والإنسان “صاحب الجدل الأكبر مما تسبب في منعه من التدوال في المكتبات المصرية، واتُهم مصطفى محمود وقتها بالإلحاد بسببه.

وأثار الكتاب عاصفة فكرية كعادة معظم كتب الراحل الكبير حيث بدأه بأسئلة مثل ما هي فلسفتك؟ بما تؤمن؟، هل يجب توفير الطعام أولا للوصول إلى مجتمعات متخلقة يرى أن الطريقة العصرية لبلوغ الفضيلة ليست الصلاة.. إنما هي الطعام الجيد، والكساء الجيد، والمسكن الجيد، والمدرسة والملعب وصالة الموسيقى، واستند في إجابته عن هذه الأسئلة إلى آراء العديد من الفلاسفة.

كيف يكون الحب في عقل الطبيب العالم؟

ولم يترك مصطفى محمود بابًا من أبواب الحياة والإنسان إلا وطرقها وكان الحب أحد هذه الأبواب، ففي كتابه “الأحلام” يقول لنا “الحب إحساس جاهز فطري في داخلنا، ينمو إذا واتته الظروف، وهو ينمو دائما من الداخل، بدون مؤثرات بهلوانية من الخارج، وبدون تمثيل وافتعال وكذب”.

ويقول في كتابه أيضًا “إن أجمل مافي هذه الدنيا.. هو الهمس، الكلمات الهامسة التي تنفجر بالشعور، الأحلام التي تعبر رؤسنا كالأطياف ثم تلمس واقعنا فتضيئه بالأمل والحنان والمعنى”.

اليأس داء من لا يقرأ التاريخ

وكأنه معنا اليوم واقف بيننا ولم يغادرنا إلى عالم الحق، حيث يرى زعماء وقادة قد ذلوا وضاعت هيبتهم بسبب سطوتهم وغفلتهم عن الحق وتغافلهم عن قول الحق سبحانه “واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله”، ففي كتابه “كلمة السر” يقول لنا ” من يقرأ التاريخ لا يدخل اليأس إلى قلبه أبداً وسوف يرى الدنيا أياما يداولها الله بين الناس الأغنياء يصبحون فقراء والفقراء ينقلبون أغنياء وضعفاء الأمس أقوياء اليوم وحكام الأمس مشردو اليوم، والقضاة متهمون والغالبون مغلوبون والفلك دوار والحياة لا تقف والحوادث لا تكف عن الجريان، والناس يتبادلون الكراسي ولا حزن يستمر ولا فرح يدوم”.

روشتة الطبيب العالم

ويكتب لنا أيضًا الطبيب العالم روشتة علاج لكل أمراض الحياة، حينما يقول في كتابه “في الحب والحياة”: “اليأس يؤدي إلى انخفاض الكورتيزون في الدم، والغضب يؤدي إلى ارتفاع الأدرينالين و الثيروكسين في الدم بنسب كبيرة، و إذا استسلم الإنسان لزوابع الغضب والقلق والأرق واليأس أصبح فريسة سهلة لقرحة المعدة و السكر وتقلص القولون وأمراض الغدة الدرقية و الذبحة ، وهي أمراض لا علاج لها إلا المحبة و التفاؤل و التسامح و طيبة القلب”.

ويخبرنا أيضًا عن الفناء حينما قال في ذات الكتاب: “نحن مصنعون من الفناء .. ولا ندرك الأشياء إلا في لحظة فنائها، نشعر بثروتنا حينما تفر من يدنا، ونشعر بصحتنا حينما نخسرها، نشعر بحبنا حينما نفقده، فإذا دام شىء فى يدنا فإننا نفقد الإحساس به”.

لم يكتف أبدًا العالم الزاهد بالأقوال والكتابات في حياته فقد كان رجل فعل وقول، حاول تقديم ما ينفعه في أخرته ليقابل به وجه الكريم في الأخرة، فقد أنشأ عام 1979 مسجده في الجيزة المعروف بـ “مسجد مصطفى محمود” ويتبع له ثلاثة ‏مراكز‏ ‏طبية‏ تهتم بعلاج ذوي الدخل المحدود، ويقصدها الكثير من أبناء مصر نظرا لسمعتها الطبية، ‏وشكل‏ ‏قوافل‏ ‏للرحمة‏ ‏من‏ ستة عشر ‏طبيبًا‏، ‏ويضم المركز‏ أربعة ‏مراصد‏ ‏فلكية‏ ، ‏ومتحفا ‏للجيولوجيا، رحم الله الفيلسوف الزاهد والطبيب العالم.
https://www.youtube.com/watch?v=PYrfmBUNPQs
https://www.youtube.com/watch?v=vqc_sKriO0A

ربما يعجبك أيضا