“كلوت بك”.. نافذة على تاريخ البغاء المنتهي في مصر

شيرين صبحي

عاطف عبداللطيف – هدى إسماعيل

“كلوت بك” اسم شهير لا يخطئه أحد ومجرد أن تتلفظ باسم الشارع العتيق القابع في وسط القاهرة؛ يحضر إلى ذهنك فيلم “خمسة باب” للفنانين عادل إمام ونادية الجندي، وغيره الكثير من الأفلام المصرية التي قدمت صورة واقعية عن مهنة الدعارة وممارسة البغاء في حواري وأزقة المحروسة؛ تحت عباءة القانون في منتصف القرن الماضي.

الشارع الذي كان مقصدًا لرغبي المتعة الحرام بكل أشكالها واشتهر بالخمارات التي كانت تقدم كل أنواع الخمور والكحوليات وقرعات النبيذ تحول نشاط محاله إلى بيع قطع غيار البوتاجازات والأجهزة الكهربائية ووصل سعر الواحد منها إلى ملايين الجنيهات.

الطبيب الفرنسي

وقديمًا نصت مادة قانونية أنه “بناءً على التماس العاهرة المذكورة أعلاه فتح محل للعاهرات باسمها وعلى مقتضى المادة 16 من لائحة النسوة العاهرات الصادر عليها قرار نظارة الداخلية، وتصديق مجلس النظار المؤرخة فى يونيه 1885 القاضية بأن كل من يرغب من الأوروبيين أو من أبناء العرب فتح محل للعاهرات يجب عليه أخذ رخصة بذلك من الإدارة المحلية“.

استمر الحال على ما هو عليه إلى أن جاء البرلماني المصري الشهير سيد جلال والذي تبرع بإنشاء مستشفى سيد جلال في حي باب الشعرية؛ وكان سببًا في إلغاء البغاء بمصر، إذ كان تاجرًا وله تجارته، وتمكن من دخول مجلس الأمة في 1945، وحرص على إلغاء البغاء بالرغم من معارضة الحكومة وقتها له، وفي سبيل تحقيق  هدفه  أقنع “سيد جلال” وزير الشؤون الاجتماعية – وقتها – بالذهاب لدائرته بباب الشعرية لافتتاح مدرسة، ووافق الوزير وذهب بالفعل لافتتاح المدرسة، واتفق “جلال” مع سائق الحنطور على الدخول بالوزير لشارع “كلوت بك” والسير ببطء، حيث تعرض الوزير لدعوات من العاهرات بممارسة الدعارة معه ظنًا منهن أنه أحد الأثرياء، حتى مزقن ملابسه وسقط “طربوشه” على الأرض أثناء منافسة حامية الوطيس بين الباغيات طمعًا في أموال “الزبون”، ليخرج من المكان ويقرر حث البرلمان المصري على استصدار قرار بمنع الدعارة في مصر وفشلت محاولاته في البداية ولم ييأس إلى أن استجاب البرلمان لـ”سيد جلال” بمنع البغاء.

أهالي الشارع

لم يكن الشارع للبغاء وممارسة الرذيلة فقط بل كان هناك سكان عاديون يقول عنهم “المقريزي والجبرتي” وبقية كتّاب التاريخ: “إن الأحرار هجروا المدينة أو المنطقة، عندما تحولت بؤرة بغايا، لأن الناس الشرفاء يتركونها، بالتالي أصبح الشارع مقتصرًا على الحانات والفنادق المشبوهة والمقاهي”.

درب طياب

تعد حارة “درب طياب” ضمن أشهر الحارات المتفرعة من “كلوت بك” واشتهرت بوجود بيوت مخصصة الدعارة، وتعددت أسماء حارة “درب طياب”؛ بحسب نشاطها وقتها حيث أطلق عليها شارع بيت أم سمسم نسبة لأكبر بيت للدعارة وسمي بشارع الشواذ حيث كان في فترة من التاريخ مقصدًا لراغبي تلك المتعة المخالفة للفطرة.

لوكندات شعبية

تظل “اللوكندات” الشعبية القديمة في قلب القاهرة، أبرز ما يميز “كلوت بك” حتى اليوم، فموقع الشارع المميّز قرب محطة سكك حديد مصر، يجعله قبلة أبناء الأقاليم المغتربين، وتمتاز اللوكندات الشعبية في كلوت بك منذ نشأتها برخص أسعارها، وسوء خدماتها، وعدم توافر عناصر الجودة والأمن والتعرض للأمراض كما تحدثت العديد من أفلام السينما المصرية عن حكايات وحكاوي شيقة من داخل أزقة وحانات كلوت بك.
 
وكانت الجالية السودانية في القاهرة صاحبة الحضور الأكبر في هذا الشارع حتى تسعينيات القرن الماضي، إذ اشتهر أفرادها بـ”تجارة الشنطة” وتوزيع السلع الخفيفة في أرجاء القاهرة، وكانت لوكندات الشارع مركزًا مناسبًا للإقامة ليلًا والانطلاق للعمل وطلب الرزق صباحًا.

قديمًا كان شارع “كلوت بك” أحد أهم أسواق الغلال والحبوب في مصر قبل مجيء الحملة الفرنسية، وبعد مجيء نابليون بونابرت اختير هذا الشارع محلًا لإقامة جنوده نسبة لموقعه الاستراتيجي وقربه من ميدان رمسيس الذي يربط بين العاصمة المصرية وأحيائها؛ وفي الوقت نفسه يعد مركزًا لوسائل النقل المختلفة على مستوى الأحياء والمحافظات، وهو الأمر الذي يضمن لبونابرت استمرار وصول الإمدادات الغذائية لجنوده.

افتتح الشارع في حوالي عام 1872، وقد قضى الطبيب الفرنسي، الذي ولد عام 1793، في جرنيوبل بفرنسا، معظم حياته في مصر، بعدما عهد إليه محمد علي باشا بتنظيم الإدارة الصحية للجيش المصري، وصار رئيس أطباء الجيش قبل أن يمنحه محمد علي باشا لقب “بك” تقديرًا لجهوده في النهضة الطبية التي أحدثها في مصر.

أقنع “كلوت بك“، محمد علي باشا، بتأسيس “مدرسة الطب”، في منطقة أبي زعبل، وتولي إدارتها، وكانت أول مدرسة طبية حديثة في المنطقة العربية، والتي نقلت بعد ذلك إلى شارع “قصر العيني”، والذي أصبح اسمها فيما بعد.

بذل “كلوت بك”، جهودًا كبيرة لمقاومة الطاعون الذي ضرب مصر عام 1830، وعني بتنظيم المستشفيات، كما أشار بتطعيم الأطفال ضد مرض الجدري. وفى عام 1847، كان “كلوت بك”، أول من استخدم البنج في مصر في عمليات خاصة بالسرطان والبتر، كما أثرى “كلوت بك”، المكتبة الطبية العربية، بالعديد من المؤلفات الطبية.

وفى عام 1849، عاد إلى مرسيليا في فرنسا، بعد أن ساد مصر حالة من الإهمال في عهد عباس حلمي الأول، ورغم ذلك، عاد إلى مصر عام 1856، في عهد محمد سعيد باشا، الذي قرر إعادة افتتاح مدرسة الطب في احتفال ضخم، وفي عام 1858، عاد “كلوت بك”، إلى فرنسا بسبب حالته الصحية، وتوفي “كلوت بك”، في مرسيليا، عام 1868، وتم تكريمه بإطلاق اسمه على شارعين في القاهرة وجرينوبل (مسقط رأسه).

بنص القانون

ربما يعجبك أيضا