محفوظ عبد الرحمن.. “حلواني الدراما” الذي روض التاريخ بقلمه

أماني ربيع

أماني ربيع

مشوار طويل ومتنوع خاضه الكاتب محفوظ عبد الرحمن، الذي لم ينو أبدا أن يصبح كاتبا، وقادته الصدفة وحدها ليصبح واحدا من أيقونات الكتابة منذ أول خربشة بالقلم وحتى رحيله أمس عن 76 عاما بعد صراع مع المرض.

كانت الشهرة الأكبر لمحفوظ عبد الرحمن بسبب الدراما؛ ربما لأن التلفزيون أحد الضيوف الأكثر شعبية في بيوتنا، ولأن أعماله شكلت بصمة أصبحت جزءا من وجداننا وبخاصة “بوابة الحلوني” و”أم كلثوم”، رغم ذلك تنوعت إبداعات الكاتب الراحل بين الصحافة والقصة القصيرة والكتابة للتلفزيون والمسرح والسينما.

في عنفوان الحلم والشباب رغب في أن يعبر عن نفسه وآرائه عبر منبر الصحافة وهي الحلم الذي ظل يداعبه لباقي العمر، وبالفعل عمل بمؤسسة دار الهلال عقب تخرجه من الجامعة عام 1960، وحلم بالانضمام لنقابة الصحفيين لكن أغلقت النقابة أبوابها دونه بسبب عضوية الاتحاد الاشتراكي التي لم يحصل عليها، وكانت هذه هي النقطة التي غيرت مساره، ليستقيل من دار الهلال عام 1963 ويلتحق بالعمل بوزارة الثقافة.

بعد التحاقه بوزارة الثقافة، ساق القدر محفوظ إلى قسم الوثائق التاريخية وهو ما يفسر لنا شغفه فيما بعد بالكتابة التاريخية وتوظيفها دراميا بشكل جذاب وسلس.

البدايات

لم يرغب محفوظ أبدا في أن تحرك لقمة العيش قلمه، كانت الكتابة هوايته الأقرب إلى قلبه ولم تكن وظيفة أو روتينا، ولم يستطع أن يحدد متى بدأ الكتابة تتحول غوايته وهوايته لما تبقى من عمره، لكن انجذابه للقصة القصيرة بدأ قبل أن يتشكل وعيه بمعرفة الأجناس الأدبية الأخرى، يقول:

 “كنت طالبًا فى الثانوية حين نشرت أول قصة قصيرة بإحدى المجلات التي تصدر بمدينة “بني مزار” في المنيا، التي كان والدي يعمل فيها ضابطا، وبعد انتقالنا إلى القاهرة نشرت لي قصة أخرى في مجلة “القاهرة” عن طريق الصحفي ضياء الدين بيبرس، الذي تابع كتاباتي وأنا في الجامعة، والطريف أن الفنان صلاح جاهين هو الذي رسم القصة في ذلك الوقت وكان فنانا مغمورا وقتها ليصبح فيما بعد أهم وأشهر شعراء العامية في مصر”.

أتبع هذه القصص المفردة بنشر مجموعتين قصصيتين أولاهما “البحث عن المجهول” عام ١٩٦٧، و”أربعة فصول شتاء” عام ١٩٨٤، وقدم بينهما بعض الروايات مثل “اليوم الثامن” و”نداء المعصومة”،  واعتبر القصة القصيرة عاملا مهما في تجربته الأدبية، لكن اهتمامه بها تضاءل مع الوقت لأنه شعر أن كتاباته لا ترقى للمحترفين، كما استحوذت الكتابة للتلفزيون والسينما على قلمه، ليقدم أولى أعماله التلفزونية وهي سهرة تلفزيونية بعنوان “ليس غدا” وبعدها بخمس سنوات قدم أول مسلسل تلفزيوني عام 1971 بعنوان “العودة إلى المنفى”.

اختاره الراحل سعد الدين وهبة ليعمل سكرتيرا للتحرير في مجلة “المسرح” ثم مجلتي “الفنون” و”السينما”، تحدث محفوظ عن هذه الفترة قائلا: رفضت أن أكون ناقدا فنيا، باعتبار النقد أحد أشق المهن في التاريخ الحكم على إبداع الآخرين أمرا صعبا، لأنه يحوليني إلى قاضي وحكم على رؤى الأخرين ووجهات نظرهم”.

الدراما تسرقه

بدأت روايح التاريخ تفوح عبر أعماله التالية، ففي عام 1976 قدّم مسلسلي “الزير سالم”، الذي قام ببطولته أحمد عبد الحليم، وجاسم النبهان، إخراج حسين الصالح، و”سليمان الحلبي”، قام ببطولته أحمد مرعي، وعبد الله غيث، الذي قدم معه في العام التالي مسلسل “عنترة بن شداد”، وفي عام 1979 قدم مسلسل “ليلة سقوط غرناطة”، و “محمد الفاتح”، “الفرسان يغمدون سيوفهم”، “ليلة مصرع المتنبي”، “السندباد”، “ساعة ولد الهدى”، “الدعوة خاصة جدًا”، و”المرشدي عنبر”.

عمل خلال تلك الفترة في العديد من الصحف والمجلات داخل وخارج مصر مثل: “الآداب، الثقافة الوطنية، الهدف، الشهر، المساء، الكاتب، الرسالة الجديدة، الجمهورية، الأهرام، البيان الإماراتية، الهلال، كاريكاتير، العربي، الأهالي”.

قرر الاستقالة من وزارة الثقافة عام 1982 ليتفرع للكتابة، وفي عام 1987 قدم  للدراما التلفزيونية، “الكتابة على لحم يحترق”، لعبد الله غيث، وسميحة أيوب، وإخراج عباس أرناؤوط، وفي عام 1991 قدم أول تجاربه الاجتماعية من خلال مسلسل “قابيل وقابيل”، لفاروق الفيشاوي، وأحمد مظهر، وإخراج إبراهيم الصحن.

توالت أعماله الناجحة مثل ثلاثية “بوابة الحلواني” التي مثلت علامة مميزة في تاريخ الدراما المصرية رصد فيها تاريخ مصر الحديث وفترة حكم الخديو إسماعيل وحوّل تلك الفترة التاريخية إلى شخوص من لحم ودم نتابع تصاعد وتشابك مسارات حياتهم في حبكة جذابة أخذت الدراما التاريخية إلى بعد آخر بعيدا عن الرتابة ومنحتها حركة وسلاسة وجاذبية للمشاهد الذي تابع حلقاتها بشغف.

يقول محفوظ عبد الرحمن عن هذا العمل: “الدافع الحقيقى لكتابة “بوابة الحلواني” كان تسليط الضوء على الرجال الذين حفروا قناة السويس، وليس فترة حكم إسماعيل كما يدعي البعض، كانت القناة بالنسبة للأجيال القديمة مشروعا مكروها على المستوى الشعبي إلى أن أعاد التأميم إلى الأذهان قيمتها وأهميتها كمشروع استراتيجي، كتبت المسلسل بعد حصولي على وثائق تاريخية ليوميات حفر قناة السويس ورأيت كيف عانى البسطاء من معاناة عند العمل بالسخرة في حفر القناة، ضروريا تقديم عمل درامي يدرك الجميع من خلاله الثمن الباهظ الذى دفعه المصريون من أجل تقديم هذا المجرى الملاحى للعالم فى فترة من الفترات التاريخية المظلمة بالنسبة لعموم الشعب”.

مسلسل آخر مثل محطة هامة في فنه، هو أم كلثوم، الذي اعتبره الكاتب أقرب أعماله إلى قلبه، أراد به تعريف الشباب بقامة من قامات الفن لعربي، كانت أم كلثوم قبل هذا المسلسل كتابا مغلقا، مجرد صوت جميل يطربنا، لكنه رصد لنا الإنسانة وراء الفنانة العظيمة رأينها في لحظات العشق الخوف والغضب وتجليات الفن، وقدم لنا وجبة فنية دسمة غنية بالنجوم، المسلسل أعاد اكتشاف صابرين ومنحها جواز النجومية المطلقة، كما قدم لنا بإحساس مرهف علاقة الصداقة والحب من طرف واحد بين ثومة والشاعر أحمد رامي، ورصد مشوار كوكب الشرق بالتوازي مع الأحداث التاريخية التي عاصرتها.

خصام مع السينما

رغم شهرته لم ينجذب محفوظ للكتابة إلى السينما، وقال إنه تجنبها في فترتي نهاية الستينيات والسبعينيات نظرا لتدني المستوى في ذلك الوقت، حتى طلب منه المخرج الراحل صلاح أبو سيف تقديم عملا سينمائيا عن الفتح العربي لمصر وبعد حوار اتفقا على تقديم فيلم عن معركة “القادسية” عن الفرس ولم يجدا منتجا مصريا يتحمس لإنتاج الفيلم، وتم إنتاجه في العراق بمشاركة نخبة من نجوم العرب وعلى رأسهم سعاد حسني.

وهكذا لم يتخل محفوظ عند الكتابة إلى السينما عن التاريخ أيضا، وعاد إليها مجددا عام 1996 من بوابة السيرة الذاتية عبر عمل ناجح هو “ناصر 56” الذي شكل علامة فارقة في أفلام السير الذاتية وحقق نجاحا ساحقا، كان السيناريو في الأساس مكتوبا لعمل سهرة تلفزيونية عن تأميم قناة السويس وعندما قرأه الراحل أحمد زكي قال إنه يناسب السينما أكثر.

 لم يقدم الفيلم رصدا تاريخيا تقليديا لمرحلة عبد الناصر، وإنما نظرة عن قرب إلى بضعة أيام شكلت علامة فارقة في التاريخ المصري هي تلك الأيام التي اتخذ فيها عبد الناصر قرار تأميم قناة السويس، وبين القرار والتنفيذ خلع عبد الرحمن عن عبد الناصر ثوب السياسة لنرى الإنسان بمخاوفه وحنانه على أسرته وعلاقته بالأصدقاء.

 يقول الكاتب عبد الله السناوي عن هذا الفيلم، من النادر أن يتحول عمل فني مهما بلغت قيمته الإبداعية إلى ظاهرة ثقافية وسياسية، وهو ما حدث مع فيلم “ناصر 56” الذي قالت عنه جريدة “لوموند” الفرنسية في صفحتها الأولى “إنها عودة مظفرة لعبد الناصر على الشاشة”.

المسرح والتغيير

ورغم شهرته ككاتب درامي إلا أن إبداع محفوظ عبد الرحمن امتد أيضا إلى المسرح وأثراه بباقة رائعة من الأعمال بلغت 12 عملا، منها: “حفلة على الخازوق، عريس لبنت السلطان، الحامي والحرامي، كوكب الفيران، السندباد البحري، الفخ، الدفاع، محاكمة السيد م، احذروا، وما أجملنا”.

آمن محفوظ  بالعلاقة بين المسرح والتغيير، ويتحدث الناقد سامي خشبة عن أعماله المسرحية قائلا: “ما يميز أعمال محفوظ المسرحية هو بعدها الفلسفي المستمد من التراث العربي، إلى جانب موهبة متميزة في صياغة الجملة المسرحية، ونجح في خلق مزيج ناجح من الحكاية والبناء المسرحي”.

وفي حوار له يحكي محفوظ عن علاقته بالمسرح قائلا: “كان المسرح من الفنون التي استهوتني منذ طفولتي، اصطحبنى والدي إلى مسرح نجيب الريحانى، في تلك الليلة ركزت مع الريحانى لسبع دقائق متواصلة، كان لها بالغ الأثر في مشواري الفني، خاصة في مجال الكتابة المسرحية، لم أنس هذه الدقائق السبع حتى الآن، يومها لمسني سحر المسرح”.

كتب أولى مسرحياته عام 1958 بعنوان “اللبلاب”  التي تقرر إخراجها من قبل المخرج حسين كمال، لكن رفضتها الرقابة رغم أننا كنا انتهينا من البروفات التحضيرية ولم تخرج للنور، عاد للكتابة مجددا بمسرحية “حفلة على الخازوق” التي رفضتها الرقابة أيضا فطلب منه الكاتب الكويتي سليمان الفهد السفر إلى الكويت وعرضها هناك وبالفعل حققت نجاحا كبيرا وشاركت بمهرجان “دمشق” المسرحي، وقدم في الدورة التالية للمهرجان نفسه ٣ عروض مسرحية من منها “الفخ” و”عريس لبنت السلطان”.

يرى الدكتور فؤاد دوارة أنه أثرى المسرح العربي بأعمال اتسمت بالنضج والأصالة والبعد الوطني القومي، دون أن يؤثر ذلك على الحبكة وشاعرية الحوار الذي كان ذاخرا بالدلالات العميقة.

مشوار الجوائز

لم يخل مشوار محفوظ عبد الرحمن الثري من الجوائز تكريما لإبداعه، فحصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1972، وأحسن مؤلف مسرحى 1983 من الثقافة الجماهيرية، والجائزة الذهبية من مهرجان الإذاعة والتليفزيون عن مسلسل أم كلثوم، وجائزة العقد لأفضل مبدع خلال 10 سنوات من مهرجان الإذاعة والتليفزيون، وتوج مشواره بجائزة الدولة التقديرية فى الفنون 2002، وحصل عام 2013، على “جائزة النيل” في مجال الفنون، والتي تعد أعلى جائزة ثقافية مصرية.

اللافت في كل أعمال محفوظ عبد الرحمن سواء للتلفزيون أو المسرح أو السينما هو الدافع الوطني الذي يحركه وكأنه مدرس للتاريخ يقدمه برؤيته الخاصة يقول للناس اعرفوا وعوا دروس التاريخ باعتبار الكتابة فعل مقاومة، كما أنها قادرة على النهوض بالمجتمع من كبوته عبر استعادة الأمجاد.

وبحسب المخرج محمد كامل القليوبي، رصد محفوظ التاريخ برؤية قومية تحمل هموما معاصرة، كما أنه قدم التاريخ برؤية ناقدة ليس باعتباره أحداثا ولكن كدراما بشرية كبرى.

ربما يعجبك أيضا