مسارات متناقضة.. كيف تتتخبط تركيا في سياستها الخارجية؟

محمود رشدي

رؤية- محمود رشدي

قد يبدو أن أنقرة لم تواجه هذا الكم من الهجوم الدولي عليها مثلما تواجهه بأيامنا الراهنة، ولاسيما عقب تولي رجب طيب أردوغان السلطة؛ لما تنتهجه الدولة من تناقضات سياسية وخلق أزمات دولية في محيطها الإقليمي وكذلك الدولي. وبالرغم من سعي أردوغان الدؤوب نحو استعادة الحقبة العثمانية وتكوين إمبراطورية تركية على غرار إرثها السابق، إلا أنه لم يفز بدعم أي من الدول سوى ارتباطات دولية ذات صيغة مصلحية، مرتبطة بتحالفات مؤقتة بأطراف معينة، مثل قطر وروسيا.

منذ اعتلاء أردوغان سلطة الحكم بأنقرة، معلناً عن سياسة تصفير المشاكل مع الاختناقات السياسية التي خلفتها الإمبراطورية العثمانية مع الجيران الإقليميين وكذلك مع التكتل الأوروبي، وسعت لحلمها بالولوج إليه كأحد أعضائه، واستندت سياسة أردوغان الأساسية حول حلم دخول الاتحاد، وإقامة علاقات طيبة مع جيرانه، بينما انقلب حلمه لكابوس مذ أن راهن على دعم جماعات الإسلام السياسي ومن ورائها الجماعات الإرهابية بالمنطقة، بما كبد العالم بأثره ويلات العنف والتطرف.

سياسة تصفير المشاكل

“بناء علاقات إقليمية تقوم على الاحترام المتبادل، والحوار، والتعاون الاقتصادي، وحلّ الخلافات بالطرق السلمية، واستيعاب التنوع العرقي والديني..” هذا هو ملخص النظرية الاستراتيجية التي طرحها “أحمد داود أوغلو”، في كتابه “العمق الاستراتيجي”، الصادر العام 2001، والتي عرفت باسم “تصفير المشكلات”. وذلك قبل أن يضعها في التطبيق، مع تولّيه منصب مستشار رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان العام 2003.
 
التآلف بين المتناقضات

وهي سياسة حاولت تركيا تبنيها في أكثر من ملف إقليمي، وكان أبرزها الملف السوري. إذ حاولت تركيا أن تواصل تفاهماتها الأمنية والسياسية مع روسيا وإيران من جهة، والولايات المتحدة والدول الغربية من جهة أخرى.
 
بل إنها رغم معارضتها الظاهرة للنظام السوري، ألمحت أكثر من مرة إلى إمكانية فتح قنوات مع الأخير، حيث وضعت شروطاً بدت أقل حدة، مقارنة بما كانت تتبناه في بداية تصاعد حدة الأزمة السورية في مارس 2011.
 
إذ بدا أن توازنات القوى في سورية تميل لصالح النظام السوري وحلفائه، على نحو انعكس في تزايد مساحة الأراضي التي يسيطر عليها الأخير إلى 60% من المساحة الإجمالية لسورية، مقابل 30% للميليشيات الكردية، و10% للفصائل التي تدعمها تركيا، وفقاً لبعض التقديرات.

مسارات ضيقة
 
تسعى أنقرة، في أحيان عدة، إلى تبني خيارات متناقضة للخروج بأكبر قدر من المكاسب الاستراتيجية، إلا أنها تواجه ضغوطاً مقابلة من جانب الأطراف الأخرى، المنخرطة في تفاعلات ثنائية معها حول بعض الملفات التي تحظى باهتمام مشترك من جانبها.
 
وقد انعكس ذلك في محاولاتها استخدام صفقتها مع روسيا لشراء منظومة صواريخ �إس 400�، وربما التهديد بشراء مقاتلات “سو 57″، لممارسة ضغوط على واشنطن في ما يتعلق بصفقة شراء مقاتلات �إف 35�، والدعم المقدم للميليشيات الكردية.
 
إذ بدا أن الأخيرة حرصت بدورها على توجيه رسائل مضادة، بأنها يمكن أن تفرض إجراءات عقابية في حالة ما إذا اتخذت أنقرة مزيداً من الخطوات في هذا السياق.
 
فبالتوازي مع انعقاد المؤتمر السنوي الـ37 للعلاقات التركية الأميركية في واشنطن، في 15 أبريل الجاري، بدأ بعض المشرعين بالكونغرس الأميركي في إعداد مشروع، يمكن أن يصل إلى حد المطالبة بوقف صفقة تسليم تركيا مقاتلات “إف 35″، ومنعها من المطالبة بالتعويض، باعتبار أنها، وفقاً لرؤية هؤلاء المشرعين، خالفت شروط عقد المشاركة في برنامج إنتاج الطائرة.
 
الانخراط في خلافات جديدة

ويأتي في مقدمتها التصعيد المتواصل بين إيران والولايات المتحدة، والذي بدأ مع انسحاب الأخيرة من الاتفاق النووي، بالتوازي مع إعادة فرض عقوبات أميركية على طهران، وانتهى بقرار تصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية أجنبية.

وهنا، فإن هذا التصعيد قد يضيف ملفاً جديداً إلى قائمة الملفات الخلافية العالقة بين واشنطن وأنقرة. فمع أن الطرفين حاولا في الفترة الماضية احتواء هذا الخلاف، خصوصاً بعد أن سمحت الأولى للثانية بالاستمرار في استيراد النفط الإيراني، في إطار المهلة التي منحتها لثماني دول مستوردة له، إلا أن هذا الاحتواء قد لا يستمر، وربما يبرز هذا الملف من جديد في مايو المقبل، حيث لا تبدي الإدارة الأميركية استعداداً، حتى الآن، لتمديد هذه المهلة، رغم أن كل الاحتمالات لا تزال واردة.

وقد بدأت أنقرة في توجيه إشارات، بأنها ستتبنى مواقف مغايرة في حالة ما إذا واصلت واشنطن إجراءاتها العقابية ضد طهران، على نحو انعكس في معارضتها لقرار تصنيف الحرس الثوري منظمة إرهابية أجنبية، إلا أن إصرار واشنطن على فرض ضغوط أقوى على طهران، خلال المرحلة القادمة، قد لا يتيح هامشاً واسعاً من حرية الحركة أمام أنقرة.
 
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية: إن المعطيات التي تنتجها التطورات السياسية والأمنية، التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، تفرض خيارات محدودة على تركيا، بشكل سيؤثر في اتجاهات سياستها الخارجية، خلال المرحلة المقبلة.
 

ربما يعجبك أيضا