الغارات الإيرانية على بلاد الرافدين.. التاريخ يعيد نفسه

محمود سعيد

رؤية – محمود سعيد

ما يجري اليوم في العراق والهيمنة الإيرانية على كافة أركانه، حدث من قبل مرات عدة في التاريخ، بل إن الغارات القادمة من إيران أو ما استقر أكثر المؤرخين على تسميتها بـ”الغارة الصفوية” تكررت كل عدة قرون، ويمكننا أن نقول إن “الزمان يدور دورته”، ولكن في كل مرة كان العراق يُحرر وتعود القوى الإيرانية إلى بلادها تجر أذيال الخيبة والهزيمة والخسران.

ورغم أن العراق كان دولة سنية على الدوام, إلا أنه تعرّض لحملات تشييع في عصر الدولة العباسية عن طريق البويهيين (يرجعون في نسبهم إلى ملوك الدولة الساسانية الفارسية) الذين سيطروا على مقاليد الحكم في بغداد سنة 945م، وأعلنوا أنهم حماة الخلافة العباسية.
قضى الغزنويون (الدولة الغزنوية في بلاد ما وراء النهر، وشمال الهند وخراسان) سنة 1023م على فرع البويهيين في الري، ثم أنهى السلاجقة الأتراك ما تبقى من دولتهم وحلوا محلهم في بغداد.

وكذلك في عهد الصفويين الذين حكموا إيران بدءاً من 906هـ (1500م) تعرضت بلاد الرافدين إلى هجمات عديدة عملت على فرض التشيع على السكان وخاصة في جنوب العراق.

يقول المفكر الإيراني الشيعي د. علي شريعتي: “الدولة الصفوية قامت على مزيج من القومية الفارسية، والمذهب الشيعي، حيث تولدت آنذاك تيارات تدعو لإحياء التراث الوطني والاعتزاز بالهوية الإيرانية، وتفضيل العجم على العرب، وإشاعة اليأس من الإسلام، وفصل الإيرانيين عن تيار النهضة الإسلامية المندفع، وتمجيد الأكاسرة.

العراق تحت حكم الصفويين

في 21 أكتوبر/ تشرين أول 1508، دخل الشاه إسماعيل الصفوي مؤسس الدولة الصفوية في إيران إلى بغداد، يقول الزعيم والمؤرخ المصري الراحل محمد فريد بك في كتابه “تاريخ الدولة العثمانية”: كان إسماعيل الصفوي قد توجّه بجيش كثيف إلى بغداد, ودخلها سنة 941هـ , وفتك بأهلها, وأهان علماءها, وخرّب مساجدها, وجعلها اصطبلات لخيله, كما فعل النصيريون من قبل, فيما قال الدكتور “الشيعي” علي الوردي في كتابه “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث”: “يكفي أن نذكر هنا أن الشاه إسماعيل الصفوي عمد إلى فرض التشيع على الإيرانيين بالقوة, وجعل شعاره سب الخلفاء الثلاثة, وكان شديد الحماس في ذلك سفاكاً لا يتردد أن يأمر بذبح كل من يخالف أمره أو لا يجاريه, قيل أن عدد قتلاه زاد على ألف ألف نفس.

وتشير أكثر المصادر التاريخية إلى أنه فعل بأهل بغداد مثلما فعل بالإيرانيين من قبل, وقتل الكثير من أهل السنة, ونبش قبر الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان!.

فاضطر السلطان سليمان القانوني إلى وقف زحفه في أوروبا, وعاد بقسم من الجيش في عام 1533 لمحاربة الصفويين، حيث تمكن في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 1534 من تحرير بغداد من الحاكم الصفوي محمد سلطان خان الذي خلف إسماعيل الصفوي.

ولأن الأطماع الكسروية لم تنتهي في يوم من الأيام، عاد الشاه عباس الصفوي إلى مهاجمة بغداد، ودخلها سنة 1033هـ 1623م، وقد عمل في بداية الأمر على دعم تمرد والي بغداد بكر صوباشي، ناقضاً بذلك معاهدة كان قد أبرمها مع العثمانيين سنة 1618م، ولما عجز الشاه عباس الصفوي عن استمالة حامية بغداد، وجه نحوها جحافل جيوشه الجرارة المجهزة بأحدث المدافع والعتاد، فقامت قواته بمحاصرتها من جميع الاتجاهات، ومن ثم اقتحمها بعد معارك طاحنة، ليبدأ الصفويون بعدها مرحلة جديدة من تصفية الحسابات مع المسلمين السنة، وكل ما يرمز لهم بصلة تنفيساً عن أحقاد طائفية متوارثة.

روى المؤرخ مرتضى نظمي زاده نقلاً عن والده الذي عاصر هذه الأحداث، “إن القوات الإيرانية فتكت بالكثير من السكان وأن من سلم من القتل لم يسلم من التعذيب، وأن العديد منهم أرغموا على ترك بيوتهم ومغادرتها، وأن الأمان الذي نودي به كان أماناً خادعاً، إذ تلا ذلك اضطهاد منظم”.

وشنّ الشاه عباس الصفوي حملة واسعة لإرغام أهل بغداد على التشيع ولإذلال العشائر السنية، وقتل الآلاف ممن رفضوا تغيير عقيدتهم، ولو في الظاهر، وأخذ أطفالهم ونساءهم فباعهم كعبيد وإماء في أسواق النخاسة في إيران، وحول المدارس الدينية إلى إسطبلات، وهدم مرقد الإمام أبي حنيفة، ومشهد عبد القادر الجيلاني، وكان ينوي تطهير السنة نهائياً من بغداد، وكانت محنة للمسلمين ما بعدها محنة.

محاولة تحرير بغداد

وكانت بغداد منذ أن تم تحريرها من الاحتلال الصفوي في عهد السلطان سليمان القانوني سنة 1534م، تعتبر خطاً أحمر، نظراً لما تمثله من قيمة رمزية لدى المسلمين السنة كعاصمة سابقة لدولة الخلافة العباسية، ولكونها من جهة ثانية تحتضن جامع الإمام أبي حنيفة النعمان، الذي كان مذهبه هو المذهب الرسمي للدولة العثمانية، ولهذه الأسباب وغيرها فقد وضع السلطان مراد الرابع تحرير بغداد من الصفويين في سلم أولوياته، ولذلك بادر بإرسال جيش لتحريرها، بقيادة الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) حافظ أحمد باشا، فكان حصار بغداد الأول سنة 1625م، الذي استمر لمدة تسعة أشهر متواصلة، ولكنه انتهى بالفشل بسبب تحصن الصفويين وراء الأسوار وخلف أبراج قلعة المدينة الحصينة، واستخدامه للعامة كدروع بشرية.

وفي سنة 1629م، عاد السلطان فأرسل حملة ثانية بقيادة الصدر الأعظم الجديد خسرو باشا، وكان الحصار الثاني لبغداد والذي استمر أربعين يوماً، ولكنه انتهى بالفشل أيضاً.

تحرير بغداد

أمام ذلك كله، وجد السلطان مراد الرابع أنه لا أمل في كبح جماح الصفويين، وتحرير بغداد من سيطرتهم، إلا إذا تولى هو بنفسه قيادة الجيش، وقد قاد بنفسه حصار بغداد الثالث والأكبر على الإطلاق سنة 1638م والذي أشرف عليه السلطان بنفسه، وكانت معركة دامية، لأن القتال لم يقتصر على بغداد وحزامها  وإنما اتسع ليشمل حدود الدولة العثمانية مع الصفويين وقد استمات فيها الصفويون -الذين قدرت قواتهم داخل بغداد نفسها بحوالي أربعين ألف مقاتل- إلى أبعد مدى، لكن السلطان مراد الرابع واصل حصاره لبغداد وتضييق الخناق عليهم، وتقدمت قواته من أبواب بغداد الأربعة، ورفض السلطان طلباً لعقد الصلح تقدم به الشاه “صفي الأول” عن طريق مبعوث خاص. وقد تواصل القتال الضاري بين الطرفين أربعين يوماً، استطاع الجيش العثماني خلالها أن يخترق دفاعات الصفويين، وأن يجبر قادتهم على الاستسلام، بعد أن أسقط في أيديهم وتبخرت أحلامهم وتكبدوا خسائر جسيمة، ولاذ بالفرار من كتبت له النجاة منهم، فدخل السلطان مراد الرابع بغداد، وذلك في 18 شعبان 1048هـ الموافق 25 ديسمبر 1638م، بعد أن استمرت في أيدي الصفويين لمدة 15 عاماً.

نادر شاه والعراق

لم تنتهي الغارات الصفوية، فبعد حوالي قران من الزمان، شن الشاه “نادر شاه” هجوما واسعا على العراق بقوات كانت تقدر بمائة وسبعين ألف جندي وتقدمت باتجاه محور كركوك – أربيل. ولما كان هدف القوات الإيرانية الاستيلاء على بغداد، فإن خطتها كانت ترمي إلى السيطرة على الموصل أولا، وكانت قد تسربت إلى المدينة أنباء من القوات الإيرانية نفسها عن الخطة المبيتة، فاستعدت للدفاع عن كيانها بحماس شعبي منقطع النظير, وقد بعث نادر شاه بخطاب يحذّر فيه أهالي الموصل السنة (عرب وكورد وتركمان) من مغبة المقاومة ويدعوهم إلى الاستسلام، ولكن أهالي الموصل أجابوا بخطاب شديد اللهجة.

وأحاط الإيرانيون بالمدينة تماما وأقاموا المتاريس والاستحكامات الدفاعية, وقد فتحت هذه المدافع نيرانها في 6 شعبان 1156 هـ/ 25 سبتمبر 1743 م, وتصدع السور في عدة أماكن, ولكن المدافعين الذين كانوا مسلحين بالإيمان والشجاعة كانوا دائما يتمكنون من إصلاح الثغرات قبل أن يجد الإيرانيون سبيلًا إلى النفاذ خلالها.

وفي فجر يوم الجمعة 15 شعبان – 4 أكتوبر/ تشرين الأول 1743 أمر نادر شاه بالهجوم العام على المدينة فأخذ مئات الآلاف من جنوده يتسلقون الأسوار بواسطة السلالم، كما بدأت قواته بتفجير الألغام تحت الأسوار وحاولت المدفعية إحداث ثغرات في السور إلا أن جيش نادر شاه فشل في محاولة الاقتحام بعد أن تصدى الموصليون لجيشه واضطر بعدها نادر شاه إلى أن يطلب الصلح من أهل الموصل راضخاً بعد الخسائر الجسيمة في صفوف قواته.

وتصف المصادر المحلية المقاومة التي أبداها أهالي الموصل, وكيف أن قنابل المدفعية الإيرانية كانت نهارًا تتساقط على الأسوار كالمطر, وليلًا تتناثر كنجوم من أديم السماء، لم تكن تؤثر في عزيمتهم وصمودهم  وواجهت القوات الصفوية ضربات رادعة وقوية عندما حاولت النفاذ إلى المدينة وتكبدت عددًا كبيرًا من القتلى.

وفي زمننا الحالي، عادت الغارات عندما اندلعت الحرب الإيرانية – العراقية التي انتهت في عام 1988م، واليوم يخضع العراق للنفوذ الإيراني منذ الاحتلال الأمريكي للعراق، ولكن من يقرأ التاريخ يعلم جيدًا أن الأمر لن يدوم، وأن العراق سيحرر لا محالة من الغرباء مهما طال الزمان.

ربما يعجبك أيضا