“الكينزية”.. نظرية اقتصادية استغلتها أمريكا لخنق الأمم

حسام عيد – محلل اقتصادي

جون مينارد كينز؛ عالم اقتصاد بريطاني أحدث ثورة في الفكر الاقتصادي الرأسمالي القائم على نظريات السوق الحر في أوائل القرن العشرين، والتي كانت تقضي – آنذاك – بأن أي شخص يريد الحصول على عمل يمكنه الحصول عليه لكن يجب أن يكون مرناً بالأجور ويقبل بأي أجر يفرض عليه.

ووصف بالأب الروحي للاقتصاد المعاصر، فأفكاره كانت المحرك للسياسات الاقتصادية للرئيس الأمريكي باراك أوباما وزعماء آخرين لإنقاذ الاقتصاد من الركود.

المولد والنشأة

وُلد جون كينز في يونيو 1883، بمدينة كامبريدج بالمملكة المُتّحدة لعائلة من الطبقة البرجوازية البيروقراطية. والده جون نيفيل كينز في جامعة كامبردج، وكاتب في الإصلاح الاجتماعي، ترك فيه أثره، الذي جعله يترك دراسة الرياضيات للاقتصاد.

وبعد أنّ تخرّج كينز من الجامعة، انتقل للعمل في الهند مدققًا ماليًا، قبل أن يعود مرة أخرى إلى إنجلترا بعد الحرب العالمية الأولى، ليعمل في وزارة الخزانة البريطانية مسؤولًا عن إعادة هيكلة الصرف داخل الوزارة، ثُمّ مسؤولًا عن التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية لجلب القروض، فيما عُرف ببعثة الاستجداء في عام 1917، والتي حقق فيها نجاحًا غير مُتوقع، بسبب فظاظته مع المفاوضين الأمريكان. ووافته المنية في في 21 أبريل 1946 بقرية “فيرل” بمقاطعة سويسكس.

النظرية الكينزية

كانت الأفكار الاقتصادية الكلاسيكية المسيطرة على نظام الاقتصاد العالمي في بدايات القرن العشرين، لكن سرعان ما قام عدد من الاقتصاديين بانتقاد النظرية الكلاسيكية للتوظف بعد حدوث الكساد الكبير الذي بدأ في عام 1929 واستمر حتى 1933، ومعاناة الاقتصادات الكبرى الركود والبطالة، بسبب زيادة العرض على الطلب، وتحكم نظرية اليد الخفية التي ترفض تدخل الدولة في السوق على مستويي الرقابة والتوجيه، لأن – وفقًا للنظرية – السوق الحرة قادرة على ضبط نفسها بنفسها.

وشدد كينز في نظريته على تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية والتحكم في الدورات الاقتصادية للوصول إلى التشغيل الكامل عبر سياسة الضرائب والسياسة المالية والنقدية.

رأى أن السياسة المالية وسيلة في معالجة مشكلات الاقتصاد الوطني؛ ففي حالة الركود الاقتصادي يجب على الحكومة أن تلجأ إلى سياسة العجز، فتزيد من النفقات العامة حتى إذا لم تكن إيرادات الخزينة كافية، في حين تلجأ إلى زيادة الإيرادات في حالة الازدهار الاقتصادي لتلافي حدوث التضخم.

كما دافع كينز عن ضرورة استخدام السياسة النقدية على نحو منسجم مع السياسة المالية لكسب معركة تحقيق التوازن الاقتصادي الكلي، فدافع عن رفع معدلات الفائدة في حالات التضخم وتخفيضها في حالات الركود.

إضافة إلى ذلك، قلب جون كينز في 1936 أساس التحليل الاقتصادي التقليدي (الكلاسيكي) الذي كان يعتمد على العرض وحوّله إلى التأثير في الطلب للخروج من واقع الركود الاقتصادي، فقيام الحكومة بامتصاص البطالة وزيادة الإنفاق العام مع رفع الأجور، تشكّل الأدوات التي تزيد في الطلب على السلع والخدمات، فتحفّز رجال الأعمال على الاستثمار وزيادة العرض فيخرج الاقتصاد من الركود إلى النمو.

وأسهمت الوقائع الاقتصادية في مدة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية صحة توقعاته، فتحول بذلك “كينز” إلى علم من أعلام الاقتصاد، وتزعم مدرسة سُميت بالكينزية التي تطورت لاحقاً على أيدي اقتصاديين أعلام، وأطلق عليها الكينزية الجديدة.

شرعنة الاستدانة

كان لكل مشكلة اقتصادية في جعبته “خطة كينزية” جاهزة، يعدها بسرعة البرق، حيث قدم تطورات ثورية للممارسات الحالية، وكان الاستثناء الوحيد هو إقراره عام 1929 لبرنامج للمشروعات الحكومية مدار مركزيا.

كينز كان يفضل السيطرة “المالية” غير المباشرة عن السيطرة “المادية” المباشرة على الاقتصاد، وذلك من أجل الاحتفاظ بمزايا صنع القرار اللامركزي، وهذا ما أوقعه في صراع مع الأساليب الاشتراكية.

وفقًا لكينز، ففي حالات الركود الكبير، كالتي حدثت آنذاك، ثُمّ تكررت في أزمة 2008، تعمد الدولة إلى التدخل بالاستثمار وضخ الأموال في السوق، مع خفض الضرائب والتعريفات الجمركية.

كينز رأى ضرورة أن تُنفق الدولة المال في السوق، وإن عنى ذلك “الاستدانة”، وذلك بغرض تحقيق معدلات إنفاق تُحقق التوازن في دورة رأس المال، حيث قال “هُناك أوقات نحتاج فيها إلى التدخل لجعل الرأسمالية تعمل لصالحنا”.

في أزمة الكساد العظيم، لاقت أفكار كينز رواجًا كبيرًا، إذ تبناها رئيس الولايات المتحدة، روزفيلت، الذي وضع خُطّة إنقاذ أخرجت أمريكا من أزمتها بمعدلات نمو مُرتفعة.

استجداء القوى الرأسمالية للبقاء

في السنوات الأخيرة من حياته، شهد كينز استجداء “بريطانيا العظمى” للولايات المتحدة الأمريكية، فهو لم يعاصر في حياته انهيار الإمبراطورية البريطانية فحسب، بل شهد كذلك الوهن وهو ينخر عظام الاقتصاد البريطاني.

ووسط غمار الحرب العالمية الأولى، واستنفاد موارد بريطانيا، كان عليها أن تقترض من الولايات المتحدة لتساعد حلفاءها وخاصة روسيا.

وفي سبتمبر 1917، ذهب كينز إلى واشنطن ليشارك للمرة الأولى في مفاوضات القروض، ورأى بأن استمرار الحرب معناه “انتهاء النظام الاجتماعي العادل”، وكان ما يرعبه هو فكرة “الفقر العام”.

وقال كينز ” كانت هُناك جهات في الولايات المُتحدة الأمريكية تعتزم استخدام منح قروض ما بعد الحرب (العالمية الأولى) كفرصة لفرض التصور الأمريكي للنظام الاقتصادي العالمي”.

ورأى أن بريطانيا سترهن مواردها للولايات المتحدة، حسبما ذكر في كتابه “الآثار الاقتصادية للسلام” والذي نشر في ديسمبر 1919، وهو رثاء لعصر ولى لم تغب فيه الشمس عن الإمبراطورية البريطانية العظمى.

العالم الاقتصادي جون مينارد كينز توفى قبل أكثر من نصف قرن إلا أن تحليله للركود والكساد يبقى الأساس للاقتصاد الكلي الحديث.

وعلى الرغم من ذلك، أظهرت الأزمة المالية العالمية التي ضربت الاقتصادات الكبرى، وكان وقعها أشد وطأة على الاقتصاد الأمريكي في 2008، أن نظرية كينز تستوجب التحسين والتعديل لتعطي دوراً للعملة في نظامها بعد أن كانت النظرية غافلة عنه ودمج القطاع المالي كقطاع حقيقي يشابه قطاع الاقتصاد.

ربما يعجبك أيضا