بعد استفتاء كردستان.. مصير “قاضي محمد” يطارد البارزاني ؟

محمود سعيد

رؤية – محمود سعيد

ليست محاولة الأكراد الأخيرة في كردستان العراق هي الأولى للاستقلال، فقد حاولوا عدة مرات الاستقلال، خصوصا بعد نهاية الدولة العثمانية، التي وفرت لهم عبر نظامها السياسي نظاما أشبه بالحكم الذاتي، وذلك قبل أن تظهر جمعية الاتحاد والترقي، ويتم تقسيم كردستان بين العراق وتركيا الجديدة وسوريا.

فيما خضعت “كردستان إيران” بعد اتفاقية “أماسيا”  بين الدولة الصفوية والعثمانية منذ عام (1555م) للحكم الإيراني. وبهذا فقد تم بموجبها تكريس تقسيم كردستان رسمياً وفق وثيقة رسمية نصت على تعيين الحدود بين الدولتين، وخاصة في مناطق شهرزور، وقارص، وبايزيد.

زعماء الكرد

وكان من أشهر زعماء الأكراد الذين حاولوا الاستقلال بمناطق كردية أو التصدي للظلم الواقع عليهم، القاضي محمد الذي نجح في تشكيل جمهورية مهاباد في كردستان إيران قبل أن يعدم في نهاية المطاف، والشيخ سعيد بيران الذي قاد الثورة التي سميت بثورة الشيخ سعيد النقشبندية في جنوب شرق تركيا ضد سياسة التتريك والتعسف التي انتهجتها حكومات مصطفى كمال أتاتورك المتعاقبة بحق الأقليات وحتى أكثرية الشعب التركي وقد انتهى الأمر بإعدامه في ديار بكر، وهؤلاء مع ملا مصطفى البارزاني في كردستان العراق هم القادة التاريخيين للأكراد في المنطقة.

كردستان العراق ليست الأولى

قاضي محمد كان (1893-1947) زعيم كردي ورئيس جمهورية كردستان (جمهورية مهاباد)، ثاني من أعلن الدولة الكردية بنفسة في الشرق الأوسط (بعد جمهورية أرارات).

في عام 1944 تشكلت منظمة كردية باسم “جمعية الإحياء الكردية” مهدت لقيام الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران وكان الشيخ قاضي محمد من مؤسسيه وكان الهدف من برنامج الحزب هو تحقيق الحرية لإيران والحكم الذاتي لكردستان داخل حدود الإيرانية والإخاء مع الشعب الاذربيجاني, وفي 17/12/1945 أعلن قاضي محمد في ساحة جوارجرا في مهاباد وبجوٍّ احتفالي انقطاع منطقة موكريان عن حكومة طهران ورفع العلم الكردي لجمهورية كردستان, وبتاريخ 22/1/1946 أعلن قيام جمهورية كردستان بقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني وعاصمتها مهاباد, وشكلت حكومة برئاسة حاجي بابه شيخ .

وقد أدى قاضي محمد هذا القسم: “أقسم بالله وبالقرآن الكريم، وبالوطن وبكرامة شعب كردستان ورايته التي نفتخر بها، أن أخدم وأسعى إلى آخر نفس حياتي، من أجل تحرير هذا الشعب و اعلاه هذه الراية، كما افتخر بكوني اتسنم منصب رئاسة الجمهورية ووحدة الكورد مع أذربيجان وأعمل ما بوسعي من أجل بقاء هذا الهدف المنشود”.

يقول نجله “علي” رئيس حزب آزادي (باك): “جمع الرئيس قاضي محمد أهالي كردستان والسياسيين الكرد في مهاباد وطرح لهم خياران الأول يقضي بإعلان الحرب مع حكومة الشاه والخيار الثاني عقد اتفاقية مع الدولة الايرانية وكان رأي الجماهير الكردستانية وبالإجماع هو الحل الثاني، وتجنب خوض الحرب لتنتهي مع هذا الخيار جمهورية كردستان بسبب جملة من العوامل الداخلية والخارجية، وأغتيلت الدولة الكردية في مهدها في 17 /12/ 1947 وما تبعته من دخول القوات الايرانية الى مهاباد وحملة الاعتقالات الواسعة التي طالت الوطنيين الكرد في تلك المدن، وفي مقدمتهم مؤسس الجمهورية قاضي محمد وأخيه ابو القاسم صدر القاضي بعد عودته من طهران الى مهاباد كما تمَّ اعتقال ابن عمه محمد حسين سيف القاضي، وأودعوا في معتقل بمعسكر في مدينة مهاباد.

وقد دفع الشعب الكردي في إيران الثمن غاليا بعدما عملت القوى الغربية وخصوصا أمريكا وبريطانيا على واد حلم الاستقلال لدى الأكراد، لذا لم يكن عمر الجمهورية الكردية طويلاً إذ حاول القاضي محمد التفاوض مع حكومة طهران حول علاقة الجمهورية الكردية – بوصفها سلطة حكم ذاتي- بالحكومة المركزيّة فرفضت إيران التّفاوض وأرسلت حملة عسكرية؛ نجحت بدعم بريطاني وأمريكي في القضاء على الجمهورية الوليدة، وتحمَّل قاضي محمد كامل المسؤولية بمحض إرادته ليعدم بعد مدة قصيرة في ساحة جوار جرا بمدينة مهاباد: وقال في اللحظات الأخيرة من حياته وبتاريخ 31 مارس/آذار 1947: “تعيش كردستان…لن تستطيعوا بقتل محمد أن توقفوا الكرد من المطالبة بحقوقهم واستقلالهم والأمة التي أنجبتني ليست عاقراً وستنجب الكثيرين ليحرروا كردستان ويرفعوا رايتها عالياً”.

وجه التشابه

وجه التشابه هنا بين جمهورية كردستان العراق إن تمكنت من الاستقلال أنها ستكون في محيط أكثره رافض لها، كما جمهورية مهاباد في كردستان إيران، صحيح أن نظرة الساسة الغربيين للأكراد بوصفهم أحفاد صلاح الدين الأيوبي الذي هزمهم في الحملات الصليبية قد تغيرت بعض الشيء، ولكن حتى اللحظة تدرك الدول الإقليمية أن استقلال كردستان العراق ستصل عدواه سريعا إلى كردستان تركيا وكردستان إيران بل وبقية المنطقة سيصلها قطار التقسيم.

وفي 1/2/1946 جرى في مراسم تتويج الملا مصطفى البارزاني جنرالاً وأنيطت به مهام قيادة قوات البيشمركة بأجمعها في جمهورية كوردستان، ويقول علي قاضي محمد “حقيقة أذكرها للتاريخ: إن البارزانيين بيشمركة صناديد دافعوا عن حدود الدولة الكردية بكل شجاعة وإخلاص، وصدوا الكثير من هجمات الأعداء ليسجَّل التاريخ أول شهيد في جمهورية كردستان وهو الشهيد البطل خوشوي خليل خوشوي في معركة (قاروا) بالقرب من مدينة مهاباد”.

وصايا قاضي محمد

وقد وصى قاضي محمد الأكراد في إيران قبل إعدامه، من أن لا يصدقوا “العجم” فيما يخص الشعب الكردي، وأن يحذروا من مخططات الأعداء والقوى الغربية ، حيث قال في وصيته الأخيرة التي ترجمها الكاتب الكردي محسن جوامیر: إن “العجم هم أعدى أعداءكم، فهم أكثر ظلما وألعن وأكثر فسقا وأقل رحمة من الجميع.. لا يتورعون عن إقتراف أي جريمة بحق الشعب الكردي.. وهكذا كانوا دائما، فالبغض والكراهية متأصلان فيهم طوال التأريخ ولحد اللحظة، فأنظروا كيف تعاملوا مع زعماء شعبكم، بدءاً ب ” إسماعيل آغاي شكاك ” وإنتهاء بأخيه جوهر آغا وحمزة المنكوري وآخرين كثر.. لقد خدعوهم جميعا، حيث تعاملوا معهم بالمرونة واللين في البداية، ومن ثم فرقوا جمعهم وشملهم، وأخيرا قاموا بكل خسة ودناءة بتصفيتهم.. لقد خدعوهم بأن أقسموا لهم بالقرآن، وأوحوا إليهم بأن نية العجم تجاههم صافية وانهم يحسنون صنعا معهم.

وتابع: “ولكن وا أسفاه على سرعة تصديق الكرد الذين إنخدعوا بيمين وعهود العجم التي قطعوها لزعماء الكرد، وكل ما قطعوه لم يتجاوز حدود الكذب والخداع، لذا، أناشدكم وكأخ صغير لكم بالله، وأقول : إتحدوا ولا تتفرقوا.. وتيقنوا بأن العجم لو منحوكم العسل، فانهم يدسون السم فيه، ولا يخدعنكم قسم وعهود العجم.. فإنهم لو حلفوا يمينا وبالقرآن ألف مرة ووضعوا أيديهم عليه ووعدوكم، حينئذ تأكدوا بأنهم يريدون خيانتكم ومخادعتكم”.

وأضاف قاضي محمد في وصيته الأخيرة “ها أنا ذا في اللحظات الأخيرة من حياتي، أنصحكم لله.. أقول لكم بأن ما كنت قادرا على فعله قد فعلته، والله أعلم.. لم أقصر في تقديم النصائح وتبيان الطريق الصحيح.. والآن وفي هذا الوقت والحال، أعيده عليكم واطالبكم بألا تنخدعوا أكثر بالعجم ولا تصدقوا حلفهم بالقرآن ولا بعهودهم وعقودهم، لأنهم لا يعرفون الله ولا يؤمنون به ولا برسوله ولا بيوم القيامة ولا بالحساب والكتاب.. وما دمتم كردا، فانكم في نظرهم مجرمون ومحكومون، حتى لو كنتم مسلمين.. من اجل ذلك، فإن رؤوسكم وأموالكم وأرواحكم مباح وحلال بنظرهم، ويعتبرون كل ما يقومون به ضدكم هو غزوة”.

من “المحتمل أن نموت”

وتتشابه تصريحات مسعود البارزاني مع قاضي محمد، حيث رفض البارزاني عروض وتهديدات الجنرال في فيلق القدس الإيراني التابع للحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، لوقف إجراء استفتاء الاستقلال في كردستان العراق.

وقد خاطب البارزاني بالقول: “من المحتمل أن نموت من أجل تحقيق هدفنا”.

حيث قال البارزاني إنه “إذا انتظر شعب كردستان أن يأتي أحد آخر ليقدم له حق تقرير المصير منحةً، فإن الاستقلال لن يتحقق أبداً”، وشدد على أن هذا الحق موجود ولا بد من أن يطالب به شعب كردستان وأن يضعه حيز التنفيذ، وإن كردستان العراق “تختار بين الحرية والعبودية”، ملمحا إلى “أن البيشمركة لن تسمح بأن يقع الإقليم في يد الأعداء”.

وأوضح بارزاني أن الأكراد تعرضوا لحملات إبادة قبل التفكير في الاستفتاء، وتابع “دعونا نبحث عن صيغة جديدة للعلاقة مع بغداد ونصبح جيرانا جيدين، مشيرا إلى أنهم حاولوا كثيرا التوصل لحل من خلال الحوار مع بغداد لكن هذا لم ينجح”.

وأضاف بارزاني “إننا نريد بناء علاقة جديدة مع بغداد على أساس حسن الجوار لأن الشراكة بيننا فشلت، ويجب أن نحافظ على علاقة الأخوة بين الأكراد والعرب والتركمان”.

يقول علي نجل قاضي محمد: في أواخر سنة 1946 وقبل مغادرة الملا مصطفى البارزاني مهاباد زار الراحل قاضي محمد وطلب منه ان يرافقه إلى العراق بيد أن قاضي محمد لم يوافق على ذلك واصر على البقاء مع عائلته في مهاباد ومواجهة مصيره المحتوم وليتحمل كامل المسؤولية بوصفه رئيساً للبلاد، وأعطى البارزاني راية كردستان وقال له: إني مؤمن بأنك القائد الشجاع الذي يصون كرامة ومستقبل شعبه مهما اشتدت الظروف وإدلهمَّت السبل وسترفع علم كردستان في الأعالي بيديك الكريميتين.

لا نستطيع الجزم بمصير إقليم كردستان العراق، خصوصا أن استقلاله يعني تغير الخارطة الجيوسياسية في المنطقة، ولأن هناك مناطق شاسعة متنازع عليها مع حكومة بغداد المركزية ومع تركيا وإيران، لذا فلا ندري إن كانت ستتكرر مأساة مهاباد في أربيل مجددا، خصوصا أن التهديدات محيطة بالإقليم من كل جانب، ولعل نبرة مسعود البارزاني عن احتمالية الموت في سبيل قضيته أكبر دليل أنه وضع التجارب السابقة التي فشلت نصب عينيه.

   

ربما يعجبك أيضا