الاقتصاد السلوكي.. استكشاف لسيكولوجيا اتخاذ القرار

حسام عيد – محلل اقتصادي

البشر لا يتصرفون دائما بما يخدمهم في المدى البعيد طبقا لما تحدده نظريات الاقتصاد الكلاسيكية المبنية على العقلانية، فالنظريات تترجم إلى نماذج رياضية لفهم وتوقع ما يقوم به الناس من تصرفات اقتصادية.

ومع تزايد حساسية الأفراد نحو تفادي الخسارة من السعي للربح، ظهر ما يسمى بالاقتصاد السلوكي والذي يعمل على تحليل ونقد تصرفات الأفراد وكيفية تأثيرها على صناعة القرار الاقتصادي.

ما هو الاقتصاد السلوكي؟

الاقتصاد السلوكي هو محاولة توظيف أدوات ونتائج علم النفس لجعل مجمل التصرفات الاقتصادية والمالية أكثر ملاءمة مع كل ما هو اقتصادي.

كما يعرف على أنه علم يعني بتحليل القرارات الاقتصادية والمالية التي يتخذها كل من الأفراد والمؤسسات التي تقوم بوظائف اقتصادية بما في ذلك المستهلكون، المقترضون والمستثمرون عن طريق دراسة العوامل الاجتماعية والفكرية.

واليوم، بدأ هذا الفرع من علم الاقتصاد يدخل إلى عملية صنع السياسات العامة في الكثير من الدول، فالحكومة البريطانية أسست فريقا “لفهم وتسخير السلوكيات”، خصص لاحقا لبيع خدماته للدول الأخرى، كذلك أسست الحكومة الأمريكية فريقا للهدف نفسه.

بداياته

كان عالم الاقتصاد البريطاني آدم سميث أول من تطرق إلى تأثير العوامل النفسية على اتخاذ القرارات في كتابه “نظرية المشاعر الأخلاقية” عام 1759، لكن أجيالاً من الاقتصاديين تجاهلوا تأثير العامل غير العقلاني على اتخاذ القرارات لأنه يُصعِّب من عملية التنبؤ بالسلوك الإنساني.

وعاد الاقتصاد السلوكي مجددًا إلى الأذهان في القرن العشرين بعد دراسة تأثير العوامل الإنسانية على حدوث الكساد العظيم عام 1929 ومساهمات عدد من الباحثين الاقتصاديين الذين حازوا على جائزة نوبل في الاقتصاد ومنهم البروفيسور دانييل كانيمان الذي حاز على الجائزة عام 2002 لمساهمته في دمج التحليل الاقتصادي مع علم النفس.

وفي 1955 قام الباحث الاقتصادي الحائز على نوبل هيربيرت سايمن بتطوير مفهوم العقلانية المحدودة، والذي يوضح أنّه يجب فهم عقول الأفراد مع الأخذ بعين الاعتبار البيئة التي نشأ فيها هؤلاء الأفراد، حيث أن قراراتهم ليست دائماً مثالية، فهناك دائماً حدود لقدرة الإنسان على معالجة المعلومات نظرًا لمحدودية معرفته أو قدراته الحسابية أو غيرها.

علاقته بعلم النفس ونظرية الاحتمال

الاقتصاد السلوكي، هو تقاطع علم النفس مع علم الاقتصاد، فالسلوك في الاقتصاد السلوكي يمكن وصفة بأنه تماثل للسلوك في علم النفس السلوكي.

وبدأ الاقتصاد السلوكي مع عمل علماء النفس دانيال كاهنمان وعاموس تفيرسكي.

في عام 1997، نشر العالمان ورقة بعنوان “نظرية الاحتمال” وهي إطار عمل حول الكيفية التي يأطر بها الناس النتائج الاقتصادية مثل الربح والخسارة وكيف يؤثر هذا التأطير على قرارت البشر واختياراتهم.

نظرية الاحتمال، أو فكرة أن الناس لا يحبون الخسائر أكثر من محبتهم للربح، لا تزال واحدة من الركائز الأساسية للاقتصاد السلوكي، وهي تتفق مع عدد من التحيزات الملاحظة التي فشلت النماذج التقليدية للمنفعة والنفور من الخطر تفسيرها.

قطع الاقتصاد السلوكي شوط طويل منذ العمل الأولي للعالمان كاهنمان وتفيرسكي- المؤتمر الأول للاقتصاد السلوكي عقد في جامعة شيكاغو في 1986.

وأصبح ديفيد لابسون أول برفسور للاقتصاد السلوكي في عام 1994، وكرس ربع مجلة الاقتصاد إلى قضية الاقتصاد السلوكي في 1999، قائلا: “الاقتصاد السلوكي لايزال حقل جديد جداً, لذلك هنالك الكثير لنتعلمه”.

أوجه الاختلاف مع الاقتصاد التقليدي

– الاقتصاد التقليدي يرى أن التحليلات الاقتصادية والافتراضات حول الأفراد لا حاجة لكي تكون واقعية، أما الاقتصاد السلوكي يرى أن الافتراضات حول الناس يجب أن تكون واقعية.

– في الاقتصاد التقليدي، الأفراد لديهم المقدرة على اكتساب ومعالجة المعلومات الملائمة بكفاءة وفاعلية عاليتين، أما الاقتصاد السلوكي يرى أن الأفراد ليست لديهم القابلية على اكتساب ومعالجة المعلومات بطريقة فعالة، فهم عادة ذوي عقلانية محدودة، حيث أنهم يقومون بأفضل ما يستطيعون في ضوء ما يواجهون من قيود.

– في الاقتصاد التقليدي يستطيع الأفراد حساب التأثيرات المستقبلية للقرارات الحالية، أما في الاقتصاد السلوكي لا يستطيع الأفراد دائما تقدير النتائج المستقبلية لقرارات الحاضر خاصة في ظروف عدم اليقين التي تحيط بعالمنا الواقعي.

– الأفراد في الاقتصاد التقليدي يمكنهم دائما اتخاذ قرارات ذكية لا يشعرون معها بالإحباط والفشل، في المقابل، يمكن للأفراد في الاقتصاد السلوكي عمل قرارات ينتهي بعضها بالفشل.

– تعظيم الدخل والثروة هو كل ما يهم في الاقتصاد التقليدي، أما في الاقتصاد السلوكي ليست الثروة والدخل هو المهم، ولكن العدالة، عمل الاشياء المناسبة، الاحتفاظ بالسمعة الحسنة، إسعاد الاصدقاء والجيران هو المهم حتى لو جاء ذلك على حساب الدخل والثروة.

– الأفراد في الاقتصاد التقليدي تحكمهم المصلحة الذاتية وهذه هي الطريقة العقلانية الوحيدة، لكن في الاقتصاد السلوكي بعض الأفراد تحكمهم المصلحة الذاتية ولكن التضحية والاخلاق هي أيضا حوافز هامة للسلوك.

الاقتصاد أكثر إنسانية

الثورة على الاقتصاد التقليدي الذي تعاملت مع الإنسان على أنه آلة، وتحكمت في سلوكه من خلال نظرياته، كان سبيل الأكاديمي الأمريكي ريتشارد ثالر للحصول على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2017 عن إسهاماته في علم الاقتصاد السلوكي.

ورأت مؤسسة جائزة نوبل إن ثالر عمل على استكشاف تصرفات إنسانية مثل عواقب العقلانية المحدودة، والتفضيلات الاجتماعية، وعدم القدرة على ضبط النفس، وكيف أثرت هذه الصفات البشرية على القرارات الفردية ونتائج السوق.

ومن ضمن الأمثلة على العقلانية المحدودة أن الناس يبسطون عملية صنع قراراتهم المالية عبر حسابات منفصلة في عقولهم تركز على الأثر الضيق لقرار الفرد، إلى جانب أن من أمثلة التفضيلات الاجتماعية أن مخاوف المستهلكين بشأن الإنصاف قد تمنع الشركات من رفع الأسعار في فترات ارتفاع الطلب.

وحاول ثالر توضيح أن عدم القدرة على ضبط النفس قد يتمثل في الصراع بين الخطط طويلة الأجل والإغراءات القصيرة المرتبطة بالسلوك الإنساني والتي قد تسبب غالبا فشل تنفيذ الخطط الطويلة كما هو مخطط له.

فيما قال بيتر جاردينفورس عضو بلجنة نوبل، إن ريتشارد ثالر جعل “الاقتصاد أكثر إنسانية”.

نظرية الاقتصاد السلوكي لا تعني أن كل ما نعرفه عن الاقتصاد التقليدي هو خاطئ، إنما تسعى إلى فهم متى ولماذا يقوم الأشخاص بالتصرف بشكل مغاير لما تفسره نماذج الاقتصاد التقليدي، وبالتالي هي تضيف طبقة أخرى من التعقيد عليه.

والنتيجة من كل ذلك هي تحليلات اقتصادية أكثر قوة وحيوية ترتكز على افتراضات أكثر واقعية حول الأفراد والطريقة التي يتصرفون بها في العالم الواقعي والظروف التي تؤثر على سلوكهم.

ربما يعجبك أيضا