في مئوية الثورة الروسية.. الزلزال الأحمر لم يتبق منه إلا ذكرى

هالة عبدالرحمن

كتب – هالة عبد الرحمن

“روسيا دولة لغز.. هي أحجية يلفها الغموض” كما قال تشرشل ذات مرة، في منتصف القرن الماضي وصف ونستون تشرشل روسيا بأنّها “لغز يلفه الغموض داخل أحجية”، لكنه استدرك قائلاً: إنّ مفتاح ذلك اللغز يوجد في كلمتين فقط: “المصالح الروسية”.

لا جديد في حقيقة أنّ روسيا -لغةً وثقافةً وأرضاً وتاريخاً- تعيش ازدواجيةً أبديّة، “وهي كذلك منذ أن قرر القدر الجغرافي أن يوزعها بين آسيا وأوروبا، فتقاسمت حدودها الشرقية مع الصين ومنغوليا وكوريا وتقاسمت حدودها الغربية الشمالية مع دول شمال أوروبا. ولا جديد في حقيقة أنّها أمة ذات تاريخ هجين، وجدت بسبب امتزاج السلاف بمكونات الحضارة البيزنطية، فتحولت بسبب ذلك الامتزاج إلى أمة مسيحية لكن شرقية، “بيضاء” لكن آسيوية.

وطبع التناقض بين جغرافية روسيا الأوروبية، وثقافتها وتطورها السياسي اللذين لا ينتميان لأوروبا، تاريخها عبر ألف عام، وتحيي روسيا الثلاثاء ذكرى مرور مائة عام على الثورة البلشفية التي شكلت زلزالا سياسيا كبيرا في القرن العشرين، في احتفالات متواضعة إذ إن الكرملين يتجنب أي تمجيد لتغيير النظام بالقوة.

وتعد الثورة البلشفية أول ثورة شيوعية في القرن العشرين الميلادي أهم ما يميز هذا التاريخ الهجين لروسيا، وتصادف اليوم ذكرى مرور مائة عام على انتصارِ الثورة البلشفية، التي جاءت بفكر فريد في نظرته للتغيير، وبدأت المرحلة الثانية من الثورة الروسية عام 1917، وقادها البلاشفة تحت إمرة فلاديمير لينين ويده اليمنى جوزيف ستالين وكامل الحزب البلشفي والجماهير العمالية، بناءً على أفكار كارل ماركس وتطوير فلاديمير لينين، لإقامة دولة اشتراكية وإسقاط الحكومة المؤقتة، إلا أن الحكومة المؤقتة والتي شكلت لم تنعم بالاستقرار، فقد عمّ الغلاء وتفشت البطالة والتي وصلت إلى خمسين في المائة.

وقد استغل زعيم البلاشفة فلاديمير لينين الوضع المتردي والهّبات المتعاقبة وإضرابات العمال إلى القفز على الحكم. ولكن البلاشفة كانوا معترضين بسبب أن العملية ستنقلب عليهم وسيفقدون الكثير من الشرعية والشعبية التي كسبوها أخيرا. ولكن رئيس الحكومة ألكسندر كيرينسكي رام أن يستبق الأحداث وأمر بمداهمة مراكز البلاشفة لاعتقالهم وتدمير آلتهم الإعلامية من صحف ومنشورات. وهكذا فعلوا في 24 أكتوبر. واستشعر البلاشفة الخطر وترجحت كفة المنادين بالثورة المسلحة ضد الحكومة المؤقتة.

وبالفعل قامت القوات الموالية للبلشفيين، إضافة إلى اللجنة العسكرية في 25 أكتوبر التي أشرف عليها ليون تروتسكي باحتلال كل المواقع الاستراتيجية في مدينة بيتروغراد (سانت بطرسبرغ) عاصمة الإمبراطورية الروسية ومقر الحكومة المؤقتة. ثم شنت القوات البلشفية هجمة على قصر الشتاء معقل الحكومة المؤقتة ومسكن بعض الوزراء في الحكومة. واعتقلوا أعضاء الحكومة ومنهم من فر خارج البلاد مثل الرئيس كيرينسكي، وأعلن لينين سقوط الحكومة قبل حدوث ذلك مما سرع في مصيرها المحتوم.

وأعلن سيطرة مجالس السوفييت على الوضع في البلاد. وفي الاجتماع الأول للمجالس السوفيتية انشق أعضاء المجلس واعتبر حزب المنشفيك أن انقلاب البلاشفة على الحكم غير شرعي وانسحب من الجلسة. ولم يكن يعلم المنسحبون أن فعلهم هذا سيكون لها تأثيرات كبيرة على تاريخ روسيا والعالم. فلقد كان البلاشفة يسيطرون على أقل من خمسين في المائة من أعضاء المجلس. وبعد انسحاب المنشفيك استطاع البلاشفة إقرار التغيير السياسي. وفي اليوم التالي، 26 أكتوبر، وبحضور لينين، أعلن روسيا جمهورية اشتراكية، وأن المجلس السوفيتي يحكم باسم القوى العاملة في البلاد.

وقامت السلطات الجديدة بإجراءات تأميم لكافة القطاعات الخاصة. أممت الممتلكات والمصارف والحسابات الخاصة. ولم يستثن البلاشفة حتى ممتلكات الكنيسة حيث قاموا بتأميم أراضيها وحساباتها البنكية. وألغوا الديون المتعلقة بالحكومة السابقة. وسيطر المجلس السوفيتي على كل المصانع. ولعل الفعل الإيجابي الوحيد كان في رفع أجور العاملين وتخفيض ساعات العمل إلى ثماني ساعات في اليوم.

ويبدو أن الهجوم الخارجي على النظام الوليد شكل عقلية قيادية تأبه للأمن الداخلي والخارجي أكثر من حقوق الإنسان ورفاهه. وقد شرع الاتحاد السوفيتي في التأسيس لنظام قمعي داخلي، خاصة في عصر ستالين والذي وضع قواعد الدولة الشمولية المتسلطة لجميع مناحي الحياة.

بالمنظور الواسع؛ لا فرق جوهري بين حكم القياصرة وحكم البلاشفة، من بين القياصرة من كان مصاباً بجنون الارتياب ومتجرداً من الضمير الإنساني (إيفان الرهيب قتل ابنه في إحدى نوبات غضبه!). ينطبق الأمر ذاته على رجل مثل ستالين، من بين القياصرة كذلك من كان إصلاحياً حتى النخاع (ألكسندر الثاني الذي ألغى العبودية في 1861)، وينطبق الأمر ذاته على إصلاحي شيوعي مثل خورتشوف أو غورباتشوف. الاختلافات تتعلق بالشخصية والطموح والتوجهات، أما جوهر النظام فهو واحد في روسيا القيصرية والبلشفية.

ربما يعجبك أيضا