حفاظًا على المناورة السياسية .. “خامنئي” لا يظهر موقفه من “مكافحة تمويل الإرهاب”

يوسف بنده

رؤية

مساء الأربعاء الماضي، دعا المرشد الأعلى، علي خامنئي، السلطات الثلاثة في إيران لاتخاذ قرارات جادة لحل مشاكل البلاد الاقتصادية وتحسين الظروف المعيشية للمواطنين.

ودعا خامنئي الحكومة، للاستفادة من وجهات نظر وحلول الاقتصاديين والناشطين في القطاع الخاص.

وبعد أشهر من الانقطاع، عاد البرلمان الإيراني، الأسبوع الماضي فقط، ليوافق نوابه بأغلبية مريحة على مشروع قانون مكافحة تمويل الإرهاب، على الرغم من معارضة مجموعة نافذة من النواب المتشددين المقربين من المرشد، ودعم النواب المحسوبين على الحكومة والرئيس روحاني، فمشروع قانون الانضمام إلى اتفاقية مكافحة تمويل الإرهاب هو أحد المشاريع الأربعة لحكومة حسن روحاني للامتثال لقوانين مجموعة العمل المالي (FATF).

تمت الموافقة، رغم بعض الاحترازات التي كان المرشد خامنئي قد لمح إليها، من آن لآخر، طوال أكثر من عام، وربما كانت بعض هذه التلميحات “الخامنئية” هي التي تعضد قلق “القلقين” المقربين من المرشد، والتي ربما لم يهدأ قلقهم حتى اليوم.

ومن خلال التوقيع على هذه الاتفاقية، تحاول إيران اختراق الحصار الدولي الملتف حول عنقها من خلال فتح كوة في جدار المجتمع الغربي. فالتوقيع على المعاهدة الدولية لمكافحة تمويل الإرهاب يريح اقتصادها المتدهور، خاصة أنه سيدخل مرحلة تشديد إضافي للعقوبات في تشرين الثاني المقبل.

مجلس صيانة الدستور

وقد أعاد مجلس صيانة الدستور في إيران إلى مجلس الشورى (البرلمان)، مشروع قانون أقرّه، تنضمّ طهران بموجبه إلى معاهدة دولية لمكافحة تمويل الإرهاب، مبرراً الأمر بـ “ملاحظات” أبداها مجلس تشخيص مصلحة النظام.

ويحتاج تطبيق مشروع القانون إلى مصادقة المجلس الدستوري، علماً بأنه أُقِرّ بغالبية ضئيلة جداً، وأثار اعتراضات من محافظين رأوا فيه “خيانة”، منبّهين إلى أن المعاهدة ستقوّض قدرة إيران على دعم تنظيمات مسلحة في المنطقة.

ومشروع القانون هو واحد من أربعة قدّمتها حكومة الرئيس الإيراني حسن روحاني، أحدها حول الانضمام إلى “معاهدة مكافحة الجريمة المنظمة” (باليرمو)، تلبية لشروط “مجموعة العمل المالي الدولية” (فاتف)، وهي منظمة حكومية دولية تكافح غسل الأموال في العالم، بعدما أمهلت طهران حتى أواخر الشهر الجاري لاستكمال إصلاحات وتشديد قوانينها لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

وتعتبر الحكومة الإيرانية أن انضمامها إلى المعاهدة سيمكّنها من نزع “ذرائع أساسية” لرفض التعاون المالي معها، بعدما أعادت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرض عقوبات على طهران، إثر انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي المُبرم عام 2015.

وأعلن الناطق باسم مجلس صيانة الدستور عباس علي كدخدائي أن البرلمان “طبّق ملاحظات” أبداها المجلس الدستوري حول معاهدتَي مكافحة تمويل الإرهاب والجريمة المنظمة، مستدركاً أن “ملاحظات مجلس تشخيص مصلحة النظام ما زالت موجودة، لذلك أُعيد مشروعا القانون إلى البرلمان”.

الحفاظ على المناورة

وحسب تقرير “ايران اينترناشنال”، ربما يكون هذا القلق المحافظ المتشدد، هو ما دفع المرشد خامنئي للتصريح، لوكالة “فارس” بأنه “ليس لديه رأي محدد حول قانون مكافحة تمويل الإرهاب”.. فهل يمكن أن يهدئ مثل هذا التصريح من قلق التيارات المتشددة التي ما زالت تعلن عن انزعاجها من مشروع القانون؟

من بين هؤلاء من دعا إلى عرقلة القانون في مجلس مصلحة النظام الذي سيعلن عن رأيه لاحقًا، وقد يتسبب في أزمة سياسية في الداخل والخارج، في حال كان رأيه معارضًا للبرلمان.

هكذا أعلن المرشد أنه لا يملك “رأيًا محددًا” تجاه المعاهدة، التي كثيرًا ما جاءت تصريحاته حولها غامضة، ربما للاحتفاظ لنفسه بمساحة من المناورة السياسية، وهو نفسه الآن لا يتخلى عن هذه المناورة حين يصرح تصريحه هذا، على ما ذكر المتحدث باسم جمعية رجال الدين المقاتلين المحافظة، غلام رضا مصباحي، لوكالة “فارس”، التابعة للحرس الثوري، يوم السبت 13 أكتوبر/ تشرين الأول، من أن آية الله ناصر مكارم الشيرازي، المقرب من الحكومة، التقى المرشد وسأله عن رأيه الخاص في مشروع قانون مكافحة تمويل الإرهاب، فأجابه المرشد: “رأيت هذه الأمور، ولم ألخصها لنفسي، ولأنني لم أحصل على ملخص، ليس لدي رأي محدد”.

ربما اعتبر الشيرازي هذا الرد إجابة شافية، لكن البعض يمكن أن يرى المرشد ما زال يتمسك بمساحة المناورة السياسية التي يحافظ عليها لإعلان تراجعه وقتما شاء، واتهام الحكومة بأنها قصرت في الالتزام بـ”إرشاداته”:

لكن الثابت الذي لا مراوغة فيه، أن نواب البرلمان اجتمعوا في جلسة البرلمان يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، وصوتوا بأغلبية 143 نائبًا لصالح مشروع قانون مكافحة تمويل الإرهاب، فيما عارض 120 نائبًا.

في الطريق إلى هذه النتيجة، امتلأت الصحف بتصريحات للمرشد خامنئي، وتفسيرات لهذه التصريحات، متباينة، وأحيانًا متناقضة، على الأقل في تأويلها..

حسين نقوي حسيني، أحد معارضي مشروع القانون، أشار خلال مناقشته في البرلمان، إلى “تصريحات المرشد الأعلى، علي خامنئي”، الذي وصف القوانين المتعلقة بمجموعة العمل المالي (FATF) بأنها “استعمارية”.

لكن علي لاريجاني، رئيس البرلمان، قرأ أمام النواب، رسالة مدير مكتب المرشد، علي أصغر حجازي، حول رأيه في مناقشة المشاريع المتعلقة بمجموعة العمل المالي، قائلاً: “إن المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية لا توجد لديه مشكلة في مناقشة أي مشروع قانون”.

وأضاف حجازي في رسالته: “قال المرشد الأعلى: إن ما قلته في اجتماعي مع النواب بشأن المشاريع الأربعة والاتفاقيات كان يتعلق بمبدأ الاتفاقيات وليس باتفاقية محددة، لذلك، لا مانع من مناقشة هذه المشاريع في البرلمان، للحفاظ على المسار القانوني”.

وقد زعمت وكالة أنباء “فارس”، في تفسيرها لهذه الرسالة، أنها “على عكس مضمونها الحقيقي، دفعت بعض النواب إلى (الظن) بموافقة المرشد الأعلى على المشروع”. أي أن “فارس” ترى، طبقا لتفسيرها، أن المرشد يرفض، لكن مضمونها يمكن أن يفيد بالعكس.

نشرت “فارس” التابعة للحرس الثوري ذلك، كما نشرت يوم 30 يونيو/حزيران السابق، لقاء خامنئي مع البرلمانيين، وذكرت معارضته الانضمام إلى “اتفاقية مكافحة تمويل الإرهاب”، وطلبه من النواب “التصديق على قوانين أخرى في هذا المجال”.. وفي السياق ذاته تجمعت عناصر تابعة لقوات الباسيج والمتشددين، خارج البرلمان، بالتزامن مع مناقشة مشروع القانون، ليعلنوا رفضهم التصديق على مشروع القانون.

صدام مستمر

هكذا أقر البرلمان مشروع القانون، دون يقين نهائي بطبيعة موقف رأس النظام السياسي في إيران، فكان طبيعيًا أن يستمر الصدام بين القوى السياسية، بعيدًا عن الاستناد إلى رأي المرشد.

المحافظون المتشددون استهدفوا علي لاريجاني، بعد إقرار مشروع القانون. في الوقت الذي نشرت فيه صحيفة “كيهان” (المقربة من المرشد، والتابعة لمكتبه) وصفًا للنواب الذين صوتوا لصالح الانضمام إلى اتفاقية مكافحة تمويل الإرهاب بأنهم “خونة”.

لماذا إذن يصر المرشد والمقربون منه أن يخرجوا إلى العلن بصوتين، هل لمجرد الحفاظ للمرشد بمساحة من الحركة السياسية، كما يمكن أن يُفهم، أم أن وراء هذه المناورات السياسية أمورًا أخرى؟

ربما أمكن الاقتراب من الأمر عند استعراض بعض أراء المقربين من المرشد أو المحيطين به. ولعل أهمهم الآن مكارم شيرازي الذي نقل كلام خامنئي الأخير من أنه ليس لديه موقف محدد، فقد صرح شيرازي، في وقت سابق، من أن هذه الاتفاقية هي اتفاقية استعمارية، تهدف إلى الهيمنة على الموقعين والتدخل في شؤونهم، كما أنها تتعارض مع الشريعة الإسلامية، وضد (مصالحنا المشروعة).

لم يبتعد نائب المرشد، إمام جمعة مشهد المتشدد، أحمد علم الهدى، كثيرًا، وإن كانت تصريحاته أكثر وضوحًا، وهو يعلن اعتراضه على مشروع القانون، حيث قال أمس إن المصادقة على هذا المشروع تعني “إزالة فيلق القدس من الشؤون المالية الإيرانية، إذا ما تم إدراجه في قائمة الجماعات الإرهابية من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، رغم أنه روح الدفاع عن إيران”.

وفي المسار نفسه، ولكن بشكل أكثر حدة، مشى ممثل المرشد الأعلى في فيلق القدس، حجة الإسلام علي شيرازي، حيث قال يوم الثلاثاء، 9 أكتوبر، في خطابه للحرس الثوري حول التصديق على مشاريع قوانين مكافحة غسل الأموال في البرلمان: “لقد وافق البرلمان أمس على انضمام جمهورية إيران الإسلامية إلى اتفاقية (FATF)، وهو ما يعني أننا يجب أن نوقف الدعم عن لبنان وسوريا والعراق.. لقد صرح المرشد بأن علينا أن نكون حذرین، فالبعض يريدون أن يأخذوا البلاد إلى أميركا.. فما هو واجبنا؟ هل نجلس؟ مجلس صيانة الدستور ملزم اليوم، بوقف هذه الخطوة. أين ذهبت غيرتنا؟ لا ينبغي أن نصرخ”.

كما دعا المرجع الشيعي، حسين نوري همداني، مجلس صيانة الدستور، يوم الأربعاء الماضي، إلى النظر “بمزيدٍ من الدقة والحساسية” في مشروع قانون انضمام إيران إلى اتفاقية مكافحة تمويل الإرهاب.

وتابع، مستندًا إلى ما فهمه على أنه رفض المرشد، قائلا: “وفقًا لما قاله المرشد الأعلى علي خامنئي، يجب أن لا تكون الاتفاقيات والمعاهدات التي تتم صياغتها في الغرب معيارًا لعمل النواب، ويجب أن تفرض القوانين الداخلية”.

ورغم كل هذا الرفض المعلن، فقد أقر البرلمان الإيراني، تباعا، ثلاثة مشاريع بشأن “إصلاح قانون مكافحة غسيل الأموال، والانضمام إلى اتفاقية قمع الجريمة المنظمة العابرة للحدود (باليرمو)، والتعديلات على قانون مكافحة تمويل الإرهاب. لكن مشروع قانون انضمام إيران إلى اتفاقية مكافحة تمويل الإرهاب، كان له العديد من المعارضين، وأدت مناقشته مرارًا إلى جدل واسع في البرلمان.

الخوف من العقوبات

إن خطورة عدم الموافقة على مثل هذه المعاهدات، تكمن في أن إيران إذا لم تلتزم بتوصيات مجموعة العمل المالي هذا الشهر/أكتوبر، فسوف تعود إلى قائمة العقوبات لهذه المؤسسة الدولية. ووضع إيران في قائمة العقوبات سيجعل الاستثمار في البلاد، والمعاملات التجارية، وعقود تحويل الأموال، وإمكانية التعاون الخاص للبنوك الإيرانية، أكثر صعوبة.

يرى المرشد والمقربون منه أنفسهم عند النظر لمثل هذه المعاهدات الملزمة، أمام خيارين، إما أن يوافقوا وينصاعوا للمجتمع الدولي، فيخسروا ميليشياتهم التي دعموها طوال عمر النظام، وإما أن يرفضوا حفاظا على ميليشياتهم في بغداد ودمشق ولبنان وصنعاء، ومن ثم يتم إدراجهم على قوائم مالية سوداء تمنع اقتصادهم من التنفس.

لهذا كان على المرشد أن يحافظ على صوتين وهو يحاور العالم، عبر مناورة سياسية تمكنه من التراجع وقتما شاء.

ربما يعجبك أيضا