احتجاجات السترات الصفراء.. ما بين شرعية الشارع والانقلاب على النيوليبرالية

محمود رشدي

رؤية – محمود رشدي

لم تكن احتجاجات السترات الصفراء في باريس اعترضاً على قرارات نظام سياسي فحسب، وإنما ذهبت لأبعد من ذلك، حيث مزيد من فشل السياسة النيوليبرالية الأوروبية؛ والتي أثبتت فشلها في تعافي الاقتصاد الأوروبي من الأزمة المالية العالمية، ولم تكن هي المرة الأولى التي اعترض فيها المواطن الأوروبي على السياسة الاقتصادية، وإنما سبقتها العديد من الاحتجاجات لحد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي .

كانت الحكومة الفرنسية تظن أن قرارات ماكرون الأخيرة ستحد بالطبع من احتجاجات السترات الصفراء أو تمنعها، كما أن فترة الأعياد بمناسبة رأس العام ستعود بالمواطنين لحالة من السكون والاستقرار، ولكن فوجئت الحكومة، السبت، بتجدد التظاهرات، وتجمع آلاف المتظاهرين بمنقطة وسط باريس ومدن أخرى بأنحاء فرنسا .

ومنذ 17 نوفمبر من العام الماضي، وتشهد باريس انتفاضة فيما عرفت باحتجاجات السترات الصفراء، اعتراضاً على قرار الرئيس الفرنسي ماكرون بزيادة الضرائب على الوقود، إلا أنها اتسعت تلك المطالب لتضاف إليها مطالب أخرى تتعلق بتدني مستوى المعيشة وانخفاض الأجور لحد المطالبة بإسقاط حكومة ماكرون، حيث يرى المتظاهرون أنها تحابي شريحة الطبقة العليا في المجتمع.

لماذا توسعت الاحتجاجات؟

على الرغم من تراجع الحكومة الفرنسية عن قرارها بزيادة أسعار الوقود، وإصدارها قرارات أخرى تتعلق برفع الحد الأدنى للأجور، إلا أن الاحتاجات لازالت مستمرة، ويمكن أن نرجع استمرارها لتعنت الحكومة الفرنسية في بداية المظاهرات وتجاهلها لمطالب الاحتجاجات، ما تمخض عنه بروز لافتات تطالب ماكرون بالتنحي لأنه لم يعد رئيساً لهم، وإنما لفئة صغيرة من الأغنياء والأثرياء. وانتهزت الأحزاب المعارضة تلك الفرصة بالدعوة لانتخابات برلمانية مبكرة.

يرجع السبب الرئيسي في رفع سقف مطالب السترات الصفراء إلى تجاهل الحكومة لمطالب المتظاهرين واعتقادها بأنها موجة من الغضب المؤقتة والتي قد تستمر لعدد من الأيام، بيد أن الحركة توسعت، ورأت أن ماكرون لا يمثل الشريحة الكبرى من الشعب الفرنسي. فقد ضغطت شرعية الشارع السياسي على شرعية الصندوق، ورأت أن شرعية ماكرون قد أصابها بعض العطب.

فشل سياسة النيوليبرالية

بات يحكم غالبية دول العالم سياسة اقتصادية واحدة تقوم على إطلاق يد آليات السوق الحر، وتقليص دور الدولة في الاقتصاد لأقصى درجة ممكنة، واقتصارها على البرامج الدفاعية والشرطية، وتعالت أصوات تلك السياسة منذ سبعينات القرن الماضي، وتم تطبيقها بالكامل في عهد مارغريت تاتشر في بريطانيا وريجان في الولايات المتحدة. وباختصار ترى تلك السياسة أن الطريق الأمثل للديمقراطية في تحرير السوق كاملاً ورفع يد الدولة من تحديد ديناميكية السوق أو الاقتصاد، وتحرر من القيود التي تفرضها الدولة على طبقة الأغنياء، وسحق النقابات العمالية.

نتج عن تلك السياسة برغم نجاحها في مهد عهدها في تحقيق معدلات نمو كبيرة في أوروبا، إلى اتساع الفجوة ما بين الأغنياء والفقراء، وما يشبه من إزالة أية قيود أمام الطبقة الرأسمالية في تحرير نفسها من الإلتزامات تجاه الطبقة العاملة، والتوجه نحو خصخصة القطاعات العامة.

وبرغم الأزمة المالية العالمية لعام 2008، والتي كانت النيوليبرالية سبب أساسي في تفجيرها، إلا أن الاتحاد الأوروبي مازال يتمسك بقواعدها، بالرغم من ظهور العديد من المؤشرات على فشلها وصعود تيار اليمين المتطرف، وانتهاج عدد من الدول لسياسة مغايرة للإملاءات الاقتصادية للاتحاد الأوروبي وصلت لحد الخروج من الاتحاد ممثلاً في الحالة البريطانية، ويروز دعوات أخرى في أوروبا مثلها مثل ” Frexit” في فرنسا.

وعليه، يتحدد مصير الاحتجاجات الصفراء في أوروبا بوجه عام وفرنسا بوجه خاص، في تغيير دفة السياسة الاقتصادية للبلاد، نحو مزيد من التدخل لصالح الشريحة العريضة من المواطنين، وأن تتملص من السياسة المركزية في بروكسل لصالح الطبقات العاملة، وإلا فسيكون مصيرها في الإتحاد مثل مصير بريطانيا.

ربما يعجبك أيضا