ومضة قرآنية.. حلاوة الدعوة في ظلمة المحنة

بسام عباس
كتب – بسام الحومي

الدعوة إلى الله أمر واجب على المسلم والمسلمة في جميع الأوقات والأحوال حتى في أحلك الظروف وأشدها على الداعية، فهي المخرج من تلك المصاعب والمتنفس لتلك الكروب، وليس أصعب على الإنسان أن يكون مظلومًا ويسجن جورًا.

فها هو سيدنا يوسف – عليه السلام – دخل السجن ولم يرتكب جرمًا سوى رفضه الخضوع لأهواء امرأة العزيز، دخل السجن تعنتًا وحفاظًا على سمعة العزيز وزوجه، ومع ذلك لم يتوانَ في جعل ذلك الكرب فرصة للدعوة إلى الله وينير الطريق أمام الناس ليهتدوا إلى الطريق المستقيم.

فعندما سأله اثنان ممن دخلوا معه السجن أن يفسر لهما حلميهما لِمَا رأوا عليه من صلاح وتقوى، وهي من الصفات التي يجب أن يتحلى بها الداعية، لم يقم بتلبية طلبيهما على الفور، بل شرح لهما عقيدته وكيف خرج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ودعاهما إلى توحيد الله وعبادته وحده دون شريك: {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ* وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ* يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ* مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذلكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}  تلك الدعوة كانت عبر أسلوب مشوق وممتع يرغِّب في قبولها والدخول في الإسلام، رغم كونهم جميعا في السجن– داعية ومدعوين– يعانون الضيم والجور، وبعد أن رأى أنهما اقتنعا بدعوته، فسر لهما حلميهما.

وعلى الداعية أن يلتزم بمنهاج الرسول– صلى الله عليه وسلم– الداعية الأول، فلا يثقل على الناس بالدعوة، بل يتحين الأوقات المناسبة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كان النبي  صلَّى الله عليه وسلَّم يتخوَّلنا– يتخيَّر الوقت المناسب– بالموعظة في الأيام؛ كراهةَ السآمة علينا)، وألا يكون فظًا غليظًا معهم، التزامًا بقوله سبحانه وتعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}.

هكذا نرى الداعية يواظب على مسيرة الدعوة، ويحوِّل أحلك الظروف وأصعبها إلى فرصةٍ لنشر نور التوحيد وصحيح الدين، ولا غَرْوَ أن نرى نسبة كبيرة ممن يدخلون السجن في الغرب يعتنقون الإسلام، حيث يشعر الإنسان في تلك الظروف بظلمه لنفسه ولمجتمعه، أو ظلم المجتمع له، وهنا يأتي دور الداعية الذي يضع يده على الجرح الغائر في تلك المجتمعات، وهو التفكك النفسي والتداعي الاجتماعي والانحلال الأخلاقي.
وبالأسلوب الذي أرساه  القران للدعوة { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } وبالسلوك القويم والخلق السوي وبالسكينة الروحية والصلاح النفسي الذي يشعر به رفقاء السجن من حوله فيبهرهم بذلك الدين الذي يجعل من أتباعه لا يفْرَقون من المصائب ولا يجزعون منها، بل هم مطمئنون مؤمنون بقضاء الله وقدره، صابرون، يحتسبون ذلك عند ربهم.

ولا شك أن الإسلام والمسلمون في دول الغرب يعانون من تلك الظروف الحالكة حيث الظلم والتضييق والحظر والتدقيق في كل ما له صله بالإسلام، وهي تلك الظروف التي عانى منها الأنبياء والمرسلين من قبل، ومع ذلك فقد استمروا في دعوتهم لا يضرهم من عاداهم ولا يمنعهم من قاتلهم.

ففي مثل هذه الأوقات يصنع الداعية من الليمون المر شرابًا حلوًا حيث تكون تلك الأزمة بالنسبة له فرصةً للانطلاق بعيدًا عن منغِّصات الحياة ويجعلها كأنها نزهة ربانية في رحاب الدعوة وتصحيح المنهج.

ولابد أن يتحين المسلم تلك المحن ليجعلها في ميزان حسناته، فهي ضربات تزيد من صلابة المؤمن، ولا يشترط أن يكون ذلك المسلم “المصاب” عاملاً في مجال الدعوة، فهو قد يكون مهندسًا أو تاجرًا أو بائعًا، أو أيًّا كان من الأعمال، إلا أنه بإتباعه السلوك النبوي والهَدْي القرآني في جميع تحركاته وسكناته ومعاملاته مع الآخرين، مع الإشارة إلى أن ذلك هَدْي الإسلام والسلوك الصحيح لكل مسلم، ومن خلال شرحه معنى الإسلام وتوضيح فضله ومكانته وسماحته، يكون بذلك قد بلَّغ دعوة الإسلام وسار على نهج الأنبياء.

فيوسف– عليه السلام– رغم ما مر به من المحن، الواحدة تلو الأخرى، لم يجزع ولم يفْتر، بل صبر وثابر وبهدوء ورويَّة وأسلوب عذب بسيط نشر دعوته داخل السجن، فأنار ظلمة القلوب التي تقبع في سجن الكفر والشرك.

ربما يعجبك أيضا