عندما حوكم جوستاف فلوبير بتهمة الإساءة للأخلاق!

شيرين صبحي

رؤية

في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم 8 مايو عام 1880 م دخلت الخادم إلى مكتب الكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير كي تقدم إليه الطعام، فوجدته ملقى على الأريكة يتمتم بكلمات متقطعة غير مفهومة، فسارعت إلى إحضار الطبيب الذي لم يستطع أن يفعل شيئًا وبعد أقل من ساعة لفظ آخر أنفاسه.

في مدينة روان الفرنسية ولد جوستاف فلوبير في 12 ديسمبر عام 1821، لأب يعمل طبيبًا، والتحق بالمدرسة متأخرا حيث تجاوز عمره العاشرة، وكان ذلك سببًا في نزعة الخجل التي لازمته.

دأبت خادم الأسرة على إشباع خياله بالكثير من القصص والحكايات فلما التحق بالمدرسة بدا ميله واضحًا إلى دراسة التاريخ، وشغف بقصصه.

ألف عدة مسرحيات وقام بتمثيل دور البطولة فيها مع أخته ببيتهم، لكن هذه المسرحيات لم تعجبه، فبدأ بكتابة القصص والموضوعات غير التمثيلية مثل “الشهوة والفضيلة”، “رقصة الموت”، “النزع”، “مذكرات مجنون”، وكتب عدة أبحاث ومقالات عن “روما والقياصرة”، “أدب رابليه”، “جنازة الطبيب ماتوران”، و”أدب الشاعر كورني”.

كان فلوبير يكتب دون علم أبيه الطبيب الذي كان يريد أن يجعل ابنه جراحًا بارعًا مثله، لكن فلوبير صارح والده بعد حصوله على شهادة الثانوية بعدم رغبته في دراسة الطب، فاقترح الأب عليه أن يكون محاميًا، وقرر إرساله إلى باريس ليدرس القانون.

لم يلبث فلوبير أن ضاق بالقانون والجامعة وباريس، وصمم على أن يحترف الأدب، وانكب على قراءة كتاب “دون كيشوت” لسرفانتس، وقد صار هذا الكتاب المنبع الأول لفلسفته وتحت تأثيرها كتب عددًا من المسرحيات والروايات التي تدور حول الجوانب القاتمة من الحياة.

بعد وفاة والده في عام 1845 وأخته الوحيدة كارولين التي كان يحبها كثيرا، انتقل إلى الضيعة التي اشتراها والده على ضفة نهر السين وتدعى “كرواسيه”، وظل هناك حتى نهاية حياته.

ألزم نفسه بنظام وعادات صارمة حيث كان يستيقظ في العاشرة صباحا ويبدأ بمطالعة الصحف والرسائل الواردة إليه، ثم يتناول غداء خفيفًا في الحادية عشرة، ويقضي الساعتين التاليتين متكاسلًا في الشرفة أو جالسًا في جناحه يقرأ، وفي الساعة الواحدة ينكب على الكتابة حتى الساعة السابعة مساء، ثم يتناول عشاءه ويقوم بجولة في الحديقة ثم يعود بعدها ليستأنف الكتابة حتى ساعة متأخرة من الليل.

مرت الأعوام وتزوجت ابنة أخته كارولين التي كانت تعيش مع أمه ومعه في البيت، ثم رحلت أمه عام 1872 فغادر ضيعته إلى باريس التي عاش فيها نفس العزلة وفي سنواته الأخيرة عاد إلى الضيعة حيث صار يقضي أكثر العام، ولا يذهب إلى باريس إلا نادرًا وصار يفرط في الطعام والشراب والتدخين، وتضاءلت موارده المالية.

كانت تنتاب فلوبير نوبات صرع غامض لازمه طوال حياته مما جعله يعزف عن الزواج، ولكنه أحب أكثر من مرة وكانت أولى حبيباته فتاة إنجليزية تدعى “هنرييت كولييه” وكان أبوها ملحقًا بحريًا لبلاده في فرنسا.

ثم أحب السيدة “إليزا شلي سنجر” التي كانت تكبره بتسع سنوات، وكان يصحبها مع زوجها وطفلها في النزهات والرحلات، إضافة للشاعرة السيدة “لويز كوليه” التي حظيت بمكانة مرموقة في الأوساط الأدبية لجمالها وليس لموهبتها الأدبية، وكانت حينها في الثامنة والثلاثين من العمر وهو في الخامسة والعشرين ، وقد تركته حينما اعتذر عن الزواج منها.

وأخيرًا حبيبته جولييت دروييه التي أحبها طوال حياته والتي رسم ملامحها على شخصية “إيما” بطلة روايته الأشهر “مدام بوفاري”.

المحاكمة

على مدى خمس سنوات ظل جوستاف فلوبير عاكفًا على شخصياته يرسمها حتى انتهي في 30 أبريل 1856 من كتابة رائعته “مدام بوفاري”.

ولدت الفكرة لدي فلوبير بعدما أنهى كتابه “تجربة سانت أنطوان” عام 1849، وأعطاها لصديقيه الكاتبين لويس بوييه وماكسيم دوكان ليعرف رأيهما فيها. فما كان من بوييه إلاّ أن قال له: “عليك من الآن وصاعداً أن تجد مواضيع رواياتك من الواقع، اجعلها من طبقة أرض الواقع”.

واقترح عليه أن يستوحي من قصة واقعية حصلت في المنطقة وهزت كل المجتمع، إنها قصة ابنة روان وتدعى دلفين كوتورييه. تلك المرأة المتزوجة والشابة الجميلة أرادت أن تعيش مشاعر الحب القوية التي قرأت عنها في القصص الرومانسية ، ومن عشيق إلى آخر، ضاعت أحلامها حين تكسرت على أرض الواقع، وأودى بها ذلك إلى الانتحار”.

تعرض فلوبير للمحاكمة بسبب “مدام بوفاري” حيث تم اتهامه بارتكاب جرائم الإساءة إلى الأخلاق العامة والدين وخدش الحياء والتهجم على قيم البورجوازية.

بدأ ماري سينار محامي فلوبير مرافعته قائلا: “إن السيد جوستاف فلوبير متهم أمامكم بأنه قد وضع كتابًا رديئًا، وبأنه قد أساء في هذا الكتاب إلى الأخلاق العامة وإلى الدين، والسيد فلوبير موجود إلى جواري، وهو يؤكد أمامكم أنه قد وضع كتابًا شريفًا، ويؤكد أن فكرة كتابه منذ السطور الأولى حتى الأخيرة فكرة أخلاقية، دينية، ومن الممكن التعبير عنها بهذه الكلمات: (الدعوة إلى الفضيلة ببشاعة الرذيلة)”!!.

وأنهي مرافعته بقوله: “هل قراءة مثل هذا الكتاب توحي بحب الرذيلة أم توحي ببشاعة الرذيلة؟ وهل التكفير البشع عن الخطيئة لا يدفع ولا يستثير نحو الفضيلة؟

جاء دور المحكمة التي أقرت بما ذهب إليه محامي الدفاع عن فلوبير في أن الفقرات موضع الاتهام إذا ما وجدت منفردة ومنفصلة تعتبر منافية للذوق السليم ومسيئة لبعض الاعتبارات.

ثم وجهت اللوم إلى المؤلف لأن مهمة الأدب تزيين النفس والترويح عنها لرفع الذكاء، وتطهير الأخلاق أكثر من إثارة الاشمئزاز من الرذيلة، ثم تقر بوجود الهدف الأخلاقي في الرواية من حيث المبدأ، لكن كان من الواجب أن يكمل في التفاصيل بنوع من القسوة والتحفظ في التعبير.

وتقديرا لدور المحامي سينار كتب فلوبير إهداء إليه على صفحات الرواية يقول فيه: “… فبفضل دفاعك المجيد، اكتسب كتابي هذا في نظري الخاص من الأهمية فوق ما كنت أرجو وأتوقع”.

ربما يعجبك أيضا