“رفيقة بلا شروط”.. “مرسيدس” وسنوات في عشق “جابو”

شيرين صبحي

رؤية

فى أوائل شهر أغسطس من عام 1966 كان الأديب جابرييل جارسيا ماركيز، وزوجته “مرسيدس”، يقفان أمام مكتب “سان أنجل” للبريد، بمدينة “نيو مكسيكو” المكسيكية لإرسال النسخة الأصلية من رواية “مائة عام من العزلة”، إلى الأرجنتين حيث المقر الرسمي للمدير الأدبي لدار “سود أمريكانا” للنشر.

وضع موظف البريد الطرد على الميزان، ثم قال: المجموع 82 بيزو. عدت مرسيدس الأوراق النقدية التي كانت تحملها في محفظتها، ثم قالت: لدينا 53 بيزو فقط.
 
يروي ماركيز: “لكثرة ما تعودنا على هذه العثرات اليومية، بعد عام ونيف من الأزمات، فإننا لم نفكر كثيراً في الحل؛ فتحنا الطرد، ثم قسمناه إلى قسمين متعادلين. وأرسلنا إلى بيونس آيرس النصف فحسب، دون أن نتساءل عن الكيفية التي سنحصل بها على المال كي نبعث بما بقي. كانت الساعة السادسة مساء يوم الجمعة، ولن يفتح البريد حتى يوم الإثنين، وهكذا كانت لدينا نهاية الأسبوع برمتها كي نتدبر الأمر”.

لم يتبق لدى ماركيز ومرسيدس سوى أصدقاء قليلين، وليس لديهما ممتلكات سوى الآلة الكاتبة المحمولة التي كتب بها الرواية في أكثر من سنةٍ ونصف، وبمعدل ست ساعات يومية، لكنهما لم يستطيعا رهنها. بعد فحص محتويات المنزل وجدا شيئين قد يصلحان للرهن؛ مدفأة قديمة، وطحانةٌ أهديت إليهما حينا تزوجا. كان لديهما أيضاً خاتما الزواج ولم يجرؤا على رهنهما اعتقادا منهما بأنه طالع شؤم. لكن “مرسيدس” قررت هذه المرة أن تذهب بهما للرهن.

ولأنهما زبونين معروفين برهن أشيائهما، فقد تم إقراضهما ما يحتاجانه دون المساس بالخاتمين.

وعندما بعثا بقية الرواية بالبريد، أدركا أنها بعثت معكوسة، صفحات النهاية قبل صفحات البداية. لم يرق لمرسيدس ذلك الأمر، لأنها وعلى الدوام لا تثق بالصدف. قالت: “أخشى أن الناشر قد يرى الرواية سيئة”.

يحكي ماركيز: “كانت العبارة تتويجاً رائعاً لثمانية عشر شهراً أمضيناها نحارب معاً لإتمام الكتاب الذي عقدنا عليه كل آمالنا. حتى ذلك الحين كنت قد نشرت أربعة أعمال خلال تسعة أعوام، ولم أحصل من خلالها إلا أقل من قليل، باستثناء رواية “ساعة نحس” التي فازت بجائزة قدرها ثلاثة آلاف دولار. بها استقبلت ميلاد ابننا الثاني قونزالو، واشتريت سيارتنا الأولى”.

فكرة إنجاز رواية خارقة تكون مختلفة ليس عما كتبه فحسب، بل مختلفةً حتى عما قرأه؛ كانت تعصف بماركيز. وفجأة، في مستهل 1965م عندما كان ذاهبا مع مرسيدس وولديهما لقضاء عطلة نهاية الإسبوع؛ شعر أنه مصعوق، ولم يحظ بلحظة هدوء، حتى عاد في نهاية العطلة، وجلس إلى الآلة الكاتبة لكتابة جملة استهلالية لم يقوى على تحملها داخله: “تذكر الكولونيل أورليانو بونديا – بعد مضي سنواتٍ عديدةٍ و هو يقود فرقة المشاة – ذلك المساء القصي الذي استصحبه فيه أبوه لكي يعرفه على الثلج”.

يقول ماركيز: لم أتوقف، منذ ذلك الحين يوماً واحداً كما لو كنت في نوعٍ من حُلمٍ مدمر حتى السطر الأخير حيث جرف العارُ ماكوندو. لقد حافظت في الشهور الأولى على مواردي الجيدة، لكني في كل مرةٍ كان ينقصني وقت أكثر لكي أكتب مثلما أحب، وإذا بالأمر يصل بي حد العملِ إلى ساعات متأخرة من الليل كي أفي بإلتزاماتي، إلى أن أضحت الحياة مستحيلة.

وشيئاً فشيئاً بدأت أهجر كل شيء، إلى أن أجبرني الواقع الذي لا يُداري على أن أختار دون لفٍ أو دوران بين الكتابةِ أو الموت. لم أحتر، ذلك أن مرسيدس -وأكثر من أي وقتٍ مضى- تكفلت بكل شيء بعدما أتينا للتو على إرهاقِ كل الأصدقاء . وأفلحت، دون توسل، في الحصول على قروض من دكان الحي وجزار المنعطف”.

لم تعد مرسيدس إلى التحدث مع ماركيز عن حيلها في جمع المال حتى مارس 1966، أي بعد مرور عام على بدء روايته، وحين تأخرا ثلاثة أشهر عن دفع الإيجار، كانت تتكلم عبر الهاتف مع مالك المنزل، لكي تطلب منه الانتظار.

وعندما أدرك ماركيز أنه يبقى له ستة أشهر لكي ينجز روايته. حينها قالت “مرسيدس”، لصاحب المنزل بنبرة لا تحمل أي تردد: يمكننا أن ندفع لك بعد حوالي ستة أشهر.

– عفواً سيدتي! قال المالك مندهشاً: ولكن هل تدركين أن المبلغ سيكون هائلاً آنذاك؟

– أدرك لكننا سنكون قد حللنا كل مشاكلنا، كن مطمئنا.

أكثر إنسان ممتع قابله ماركيز

ولدت مرسيدس عام 1932 وعاشت في ماغانغوي في كولومبيا، حيث كان والدها يملك صيدلية، وكان غارسيا ماركيز يعرفها منذ الطفولة عندما كان يعمل بائعا متجولا ويتنقل مع والده من قرية إلى قرية لبيع أدوية.

تزوجا سنة 1958، ورزقا بولدين أحدهما غونزالو وهو رسام والثاني رودريغو وهو مخرج ومنتج سينمائي وتلفزيوني.

هي حفيدة جد أكبر مصري ولد في الإسكندرية، لأم مصرية وأب لبناني، هاجر إلى كولومبيا، وتوفي فيها بعمر 100 عام تقريبا، وحفيده هو جد مرسيدس الذي “اعتاد على أن يقلب الفنجان بعد شربه للقهوة التركية، ليرى فيه البخت”.

وذكرت مرسيدس -في إحدى مقابلاتها- أن ذلك الجد المهاجر من الإسكندرية “كان مصريا خالصا (..) كان يحملني على كتفيه لألعب، وكذلك في حضنه. وكان يغني لي بالعربي، ودائما يرتدي القطنيات البيضاء، وكان يملك ساعة من ذهب ويضع قبعة قش على رأسه، وتوفي عندما كان عمري 7 سنوات تقريبا، وهذا كل ما أذكره عنه”.

رحلت مرسيدس عن عالمنا، أمس السبت، وعبّر الرئيس الكولومبي إيفان دوكي عن تعازيه للعائلة. وكتب “اليوم توفيت مرسيدس بارشا التي كانت حب حياة مواطننا الحائز على نوبل جابرييل جارسيا ماركيز، ورفيقته بلا شروط”، مؤكدا “تضامن” كولومبيا مع عائلتهما.

وقالت “مؤسسة جابو” لقب الروائي الراحل، واسمها الكامل “مؤسسة جابرييل غارسيا ماركيز للصحفية الإيبرية الأمريكية الجديدة” أن مرسيدس بارشا “توفيت في منزلها في مكسيكو حيث استقرت مع جابو في 1961.

ربما يعجبك أيضا