الشهيدة.. «راشيل كوري» التي دفعت عمرها من أجل فلسطين

هدى اسماعيل

هدى إسماعيل

“إني أشهد هذا التطهير العِرقي المزمن وخائفة جدًا، وأراجع معتقداتي الأساسية عن الطبيعة الإنسانية الخيّرة، هذا يجب أن يتوقف، أرى أنها فكرة جيدة أن نترك كل شيء ونكرّس حياتنا لجعل هذا يتوقف، أشعر بالرعب وعدم التصديق”، هكذا قالت راشيل في إحدى رسائلها من غزة إلى أمها قبل رحيلها.

مضى 18 عاما على رحيل «راشيل كوري»، أول ناشطة سلام دولية تسحق تحت “جنازير” آليات الاحتلال العسكرية في رفح جنوب قطاع غزة، بينما كانت تتضامن مع الشعب الفلسطيني وتحاول منع هدم منازل ، ففي السادس عشر من آذار عام 2003، كانت الناشطة الأمريكية «راشيل كوري»، البالغة من العمر حينها (23 عاما)، تقف بمواجهة آلية عسكرية إسرائيلية جنوب قطاع غزة، لتتحرك باتجاهها وتسحق عظامها بلا رحمة أو هوان.

كن إنسانا

يتذكر محبو السلام في العالم، حادثة استشهاد راشيل كوري، التي لطالما رفعت شعار “كن إنسانا”، وتقدمت في ذلك اليوم، حاملة مكبرا للصوت وترتدي معطفا برتقاليا نحو جرافة الاحتلال، كي تمنعها من الاقتراب من تدمير المنازل في قطاع غزة وتجريف أراضي المزارعين، معتقدة أن ملامحها الأجنبية، ستشفع لها أمام بطش الاحتلال، غير أنها سقطت في دقائقَ جثّة هامدة.

كانت راشيل، وهي طالبة جامعية، وثمانية من زملائها من حركة التضامن الدولية، (خمسة أمريكيين وثلاثة بريطانيين)، لحظة مصرعها يحاولون منع جرافة عسكرية تابعة لقوات الاحتلال من هدم أحد المنازل الفلسطينية في حي السلام المجاور للشريط الحدودي مع مصر جنوب مدينة رفح.

ووفقاً للإفادات التي قدّمها زملاء الضحية وقتها للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان وإفادات شهود العيان، إنه في حوالي 4:45 من مساء ذاك اليوم، كانت راشيل كوري تقف أمام أحد المنازل الفلسطينية في حي السلام برفح، وكانت تلوّح لسائق جرافة عسكرية إسرائيلية كانت تتقدّم نحو المنزل لكي يتوقّف عن هدم المنزل، وفي تلك اللحظة كانت كوري ترتدي سترة برتقالية اللون يمكن تمييزها عن بعد، وتتحدّث إلى سائق الجرافة بواسطة مكبّر للصوت، فيما كان بقية أعضاء مجموعة حركة التضامن الدولية يقفون على بعد حوالي 15-20 متراً يناشدون سائق الجرّافة التوقّف.

ووفقا لإفادات شهود العيان، يبدو أن كوري صعدت على كومة من التراب بينما كانت الجرافة تتقدّم نحوها وأثناء محاولتها الابتعاد، سقطت أرضا وغطاها التراب الذي جرفته شفرة الجرافة.. في هذه الأثناء كان زملاء كوري يصرخون ويشيرون إلى سائق الجرافة بأن يتوقّف. ثم توقّفت الجرافة على بعد أمتار قليلة، ورفعت كفها إلى أعلى وأنزلته مرة أخرى وعادت إلى الخلف.

وذكر شهود العيان أن قوات الاحتلال لم تقدّم أية مساعدة لكوري.. وبعد لحظات، وصلت سيارة إسعاف فلسطينية وقامت بنقلها إلى مستشفى الشهيد محمد يوسف النجار في رفح، حيث أعلن عن وفاتها.

الطفلة راشيل

بالنسبة لطفلة نادت بإنقاذ آلاف الأشخاص من الموت جوعًا وهي في العاشرة، لم يكن ليبدو طبيعيًّا أن تقضي راشيل إجازاتها على شواطئ مدينة سياتل الساحلية القريبة من بلدتها كما يفعل أقرانها، بل انضمت خلال دراستها الجامعية إلى حركة طلابية تدعو للتضامن والسلام، ممَّا مهد طريقًا لسفرها إلى غزة.

كانت كوري طفلةً نبيهةً أبهرت الجميع بفطنتها وإدراكها أمورًا تتجاوز سنها، وكبرت لتكون فتاة ذكية يتابع الملايين نشاطها ضد ممارسات إسرائيل اﻻستيطانية في فلسطين، لكن أحدًا لم يكن ليقدر على التنبؤ بمصيرها المأساوي.

الشهيدة

أطلق الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات على راشيل لقب “الشهيدة”، كما سميت العديد من المراكز الثقافية باسمها احتراما وتخليدا لاسمها في الأراضي الفلسطينية، ونظمت لها جنازة على غرار جنازات الشهداء الفلسطينيين .

وخُلد اسم راشيل كوري في العالم أيضا، حيث سميت باسمها سفينة المساعدات الإيرلندية لقطاع غزة، كما قامت المخرجة الفرنسية-الإسرائيلية سيمون بيتون بإنتاج فيلم باسم “راشيل” الذي يصور معاناة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة من خلال سرد موثق لقصة حياة وموت الناشطة الأميركية راشيل كوري .

بينما قامت المحكمة الإسرائيلية عام 2013 بتبرئة قاتل المتضامنة راشيل، ورفضت المحكمة دعوى مدنية رفعتها عائلة راشيل ضد إسرائيل .

ومنح الرئيس الشهيد أبوعمار والدي راشيل كوري قلادة بيت لحم 2000، وهذه القلادة عبارة عن وسام فلسطيني رفيع لا يُمنح إلا للرؤساء والوطنيين وكبار الشخصيات.

حمامة أولمبيا

تحولت “راشيل” إلى أيقونة واستمدت منها الكتب والروايات بعض أحداثها ومن ذلك رواية الكاتب الفلسطيني لـ هارون هاشم، أحد شعراء النكبة، استلهم في “راشيل كورى حمامة أولمبيا” حادثة مقتل المواطنة الأمريكية راشيل كورى في مدينة رفح الفلسطينية، ويحكى عن فتاة أمريكية سافرت مسافات طويلة لكى تعبر عن مواقفها الإنسانية النبيلة تجاه شعب سمعت عنه عن بعد أصرّت أن تتعرف عليه عن قرب، وتعيش بين أبنائه لتقرأ الواقع المختلف عما ترويه وسائل الإعلام الغربية لتنتهى حياتها بعد ذلك تحت جرافة إسرائيلية.

ومزج هارون هاشم بين الواقع والتاريخ ليخرج بهذه الرواية التي تعد عملاً توثيقياً يوثّق لهذه القصة الإنسانية.

مؤسسة راشيل

e8344196bdb24eaa90209e5bfc9e6e16

عادةً يميل الناس إلى الانسحاب من العمل العام تحت وطأة الفاجعة الشخصية، لكن العكس حدث مع عائلة كوري. قالت راشيل قبلًا إنها لو عاشت في البوسنة أو رواندا أو أي مكان آخر، سيُصبح الموت غير المبرَّر واقعًا بالنسبة إليها وليس مجازًا كما يراه البعيدون عنه، وكذلك كان موتها واقعيًّا أكثر من أي شيء آخر بالنسبة لأبويها، ودافعًا لاستكمال قضيتها.

قبل وفاة راشيل، لم تكن المسألة بالنسبة إلى والديها أنهما غير مهتمَّيْن بالصراع العربي الإسرائيلي، بحسب تصريحات سيندي لصحيفة «الجارديان»، لكن «ربما كنا معزولين بعيدًا عن القضية. كنا نعرف عنها بالطريقة التي عرفها معظم الأمريكيين، عن طريق التقارير الإخبارية». تضيف الأم: «كان تعاطفنا مع الرواية الإسرائيلية اليهودية، ﻷن هذا ما نعرفه، أما الرواية الفلسطينية فلم تكن موجودة بالنسبة إلينا على الإطلاق».

بعد مقتل ابنتهما، أنشأ الأبوان «مؤسسة راشيل كوري للسلام والعدالة»، لاستكمال مسيرة الفتاة ضد الهدم، وهي مؤسسة تحاول نشر ثقافة التعاون وتقبُّل الآخر، وترسيخ مبادئ العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.

طَوَال ما يزيد على عقدٍ كامل، شغلت «معركة السلام» حياتهما. تعلما كيف يقودا الحملات الإعلامية، ويتعاملا مع الصحافة، ويتحديا السلطة، وأن يستغلا دعم حكومتهما كلما أمكن.

مع ذلك، ﻻ تنتظر الأم ختامًا للقصة، لكنها تحاول أن تستكمل السعي. تقول سيندي: «الخسارة أبدية، والفراغ مستديم، تشعر به في كل يوم من حياتك». تعرف أنها لن تتصالح يومًا مع ما حدث ﻻبنتها، وأنها تحتاج فقط لأخذ نفسٍ عميق ومواصلة السير إلى الخطوة التالية.

أين وطنها

رفعت أسرة راشيل دعوى قضائية ضد الجيش الإسرائيلي، إلا أن المحكمة رفضت وبرأت جيش الاحتلال، وفي عام 2015 قوبل الاستئناف إلا أنه أيضا لم يتحقق شيء.

 وبعد مقتل راشيل فتح الجيش الإسرائيلي تحقيقا في مقتل الناشطة، وقد أفاد سائق الجرافة في التحقيق أنه لم يشاهدها، وأغلق لمدعي العام في الجيش الإسرائيلي الملف بعد مرور 3 شهور على مقتلها تحت مبررات عدم وجود دلائل تعمد قتلها

الدولة التي تنتمي إليها راشيل لم تفعل شيء للقصاص لها، فحين قدم النائب الأمريكي «براين بيراد» في مارس 2003 مشروع قرار في الكونجرس الأمريكي يقضي بمطالبة الحكومة الأمريكية بإجراء تحقيق كامل في مقتل الناشطة كوري، لم يحرك الكونجرس ساكنا.

ربما يعجبك أيضا