بنوك لبنان.. قطار يسير نحو الهاوية

ولاء عدلان

كتبت – ولاء عدلان

حذرت وكالة “موديز” في تقرير حديث لها، من خطورة قيام مصرف لبنان المركزي بالسحب من  احتياطات النقد الأجنبي الإلزامية المحتفظ بها نيابة عن البنوك التجارية، لتمويل الحكومة وبرامج دعم الواردات، وقالت إن التعدي على هذه الاحتياطات قد ينتهي بفقدان لبنان لعلاقات المراسلة المصرفية مع الخارج بشكل تام، بما سيسرع انهياره الاقتصادي وتحديدا انهيار قطاعه المصرفي الذي بات أشبه بقطار يستعد للتحطم.

استنزاف الاحتياطات الأجنبية  

الوكالة الشهيرة قالت: إن التعدي على الاحتياطات الإلزامية للبنوك المحتفظ بها في مصرف لبنان، وسط استمرار أزمة تشكيل الحكومة الجديدة ودخول البلد في دائرة الجمود السياسي، من شأنه زيادة المخاطر لدى البنوك الدولية المراسلة، بما يعرض المعاملات المصرفية في البنوك اللبنانية للخطر، ويؤثر سلباً على الركائز الأساسية للاقتصاد، كالتجارة والسياحة وتحويلات المغتربين.

منتصف هذا الشهر، أبلغ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني أن “المركزي” لم يعد بإمكانه توفير المال لبرنامج الحكومة الخاص بدعم الواردات، نتيجة لاستنزافه لاحتياطات النقد الأجنبي القابلة للاستخدام.

من جانبه حذر غازي وزني -في تصريحات سابقة- من أن حجم الاحتياطيات الأجنبية المتبقي للدعم سينفد بنهاية مايو المقبل، ما يعني أن البلد سيصل إلى مفترق طرق، ما لم تجد حكومة تصريف الأعمال الحالية حلا أو لنقل مسكنا مؤقتا يمنع الوصول إلى مرحلة الشلل الاقتصادي إلى حين تشكيل الحكومة العتيدة واستعادة ثقة المانحين الدوليين، بما يفتح نافذة جديدة لبنان للحصول على النقد الأجنبي.

بحسب وزير المالية، احتياطيات النقد الأجنبي حاليا تقدر بـ 15.8 مليار دولار، ما يعني أن الاحتياطي الذي يمكن السحب منه لتمويل برامج الحكومة لدعم واردات القمح والوقود والأدوية والسلع الأساسية عموما، يقدر بنحو 800 مليون دولار، قبل المساس بمستوى الاحتياطي الإلزامي – أي احتياطات البنوك المحلية من العملات الأجنبية المودع لدى المصرف المركزي- والبالغ 15 مليار دولار.

وأكد وزني أنه في حالة استمرار استنزاف احتياطيات العملات الأجنبية بعد مايو، فستكون أموال المودعين في خطر حقيقي.

منذ أواخر 2019 ولبنان يرزح تحت أزمة مالية هي الأشد في تاريخه منذ الحرب الأهلية، وساهمت جائحة كورونا وكذلك الأزمة السياسية الداخلية في زيادة وطأتها، حاليا يبلغ سعر الدولار الواحد في السوق “السوداء” أكثر من 12 ألف ليرة، وفي البنوك نحو 3850 ليرة، وفي “المركزي” يبلغ نحو 1507.5 ليرة، وهو سعر خاص بدعم ورادات السلع الأساسية.  

هذه الأرقام تعني أن الليرة فقدت أكثر من 85% من قيمتها، ما أسفر عن تضخم غير مسبوق في السوق المحلية، حيث ارتفعت بعض أسعار السلع الأساسية بأكثر من 100%، نتيجة نقص المعروض واضطراب عمليات الاستيراد في ظل ندرة المعروض من النقد الأجنبي.

تقول “موديز”: بسبب برنامج الحكومة لدعم الواردات، تم استنزاف معظم الاحتياطي الأجنبي في 2020، مما أدى إلى ارتفاع معدلات العجز السيادي بالإضافة وارتفاع معدلات الدين الخارجي، “الدين العام اللبناني يقدر بنحو 172% من الناتج المحلي”.

القطاع المصرفي اللبناني في خطر

لبنان لسنوات طويلة حمل لقب “سويسرا الشرق” بامتياز، ليس فقط لما يتمتع به من جمال الطبيعة ورواج سياحي، بل الأهم قطاعه المصرفي الذي يعتمد قوانين صارمة تتعلق بالسرية المصرفية، كما أن بنوكه كانت دائما تقدم أسعار فائدة مذهلة على الودائع بالعملات الأجنبية تحديدا الدولار لجذب رؤوس الأموال الأجنبية، التي يندرج تحتها عملاء أشخاص سواء لبنانيين مغتربين أو غير لبنانيين وشركات وحكومات.. فالجميع يسعى للربح، إلا أن هذه الصورة تبدلت تماما خلال السنوات الأخيرة الماضية، حيث بدأت الشكوك تحوم حول قدرة البنوك اللبنانية في الوفاء بالتزاماتها، لاسيما مع تفاقم أزمة انهيار الليرة في 2020، وإعلان لبنان عجزه عن سداد ديونه السيادية، وبالطبع للأزمة السياسية ظلال واضحة هنا.. فالاقتصاد والسياسة يتحركان معا بصورة متوازية على الدوام.

اللبناني المغترب دائما كان مصدر التمويل الأساسي للبنوك المحلية، فودائع لبناني المهجر كانت نبع لا يتوقف لـ”الدولار” وكلمة السر في متانة القطاع المصرفي اللبناني حتى في وقت الأزمات لم تتوقف تحويلات اللبنانيين لدعم اقتصاد الوطن، إلا أنه منذ أواخر 2019 ومع توجه البنوك إلى تجميد ودائع العملاء الدولارية ومنع التحويلات إلى الخارج، جف هذا النبع بشكل شبه تام، حتى المودعين بالداخل الذين يملكون حسابات بالدولار من غير المسموح لهم -وفق تعليمات المركزي- بسحب أموالهم بالدولار وكل ما يمكنهم فعله هو الحصول عليها بعد تحويلها بالليرة بسعر أقل بكثير من المتداول في السوق الموازية، ما يعني في النهاية أن أموال المودعين باتت رهينة لدى هذه البنوك.  

تشير تقديرات مصرفيين محليين إلى أن البنوك اللبنانية مدينة بأكثر من 90 مليار دولار، وخلال العامين الماضيين فقدت البنوك التجارية ودائع قيمتها نحو 49 تريليون ليرة لبنانية أي ما يعادل حوالي 22 في المئة من أصولها الإجمالية، والسر الحقيقي في هذه الأزمة أن هذه البنوك كانت لسنوات طويلة من أكبر المقرضين للدولة اللبنانية ولـ”المركزي” وتشكل السندات الحكومية أغلب أصولها، ما يعني أنها أول ضحايا عدم قدرة لبنان على سداد ديونه، إذ حولت جزء كبير من الودائع الدولارية لديها إلى سندات، ما يعني أنها خاطرت بأموال العملاء، وحاليا تعاني من نقص شديد في السيولة وأي إعادة هيكلة مستقبليها لها ستضر في الأساس بكبار العملاء.  

 علاجات غير كافية ومحاولات لم تكتمل

في يوليو الماضي أعلن حاكم “المركزي” رياض سلامة، عن تشكيل لجنة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، تضم ممثلين عن الحكومة ومصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف وجمعية المصارف، لكن هذه اللجنة أجهضت قبل أن تبدأ عملها بانسحاب لجنة الرقابة منها، نظرا للتضارب بين دورها المحدد في القانون، والدور الذي يفترض أن تقوم به ضمن لجنة إعادة الهيكلة.

في أغسطس 2020، كانت لمصرف لبنان محاولة جديدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، حيث أصدر تعميما لإعادة تفعيل عمل المصارف، يلزم البنوك المحلية بضرورة زيادة رأس مالها بنسبة 20%، وأن تكون حساباتها لدى مراسليه في الخارج من المصارف تشكل نسبة لا تقل عن 3% من مجموع ودائع العملات الأجنبية لديه، وأعطى المركزي مهلة للوفاء بهذه الالتزامات حتى 28 فبراير 2021، وقد أنقضت المهلة دون جديد وحاليا هناك حديث عن تمديد لها حتى يونيو المقبل، حيث لم يتمكن سوى عدد قليل للغاية من البنوك بالوفاء بهذه الالتزامات بعض تصفية بعض الأنشطة الخارجية كبنك “عودة” الذي قال في مذكرة – نشرتها “رويترز” فبراير الماضي- إن حصيلة بيع العمليات الخارجية ستتيح لنا الوفاء بالشروط التنظيمية وفي الوقت نفسه تؤهلنا بين البنوك اللبنانية القادرة على الاستمرار بمستويات سيولة كافية.

المصرفي والوزير السابق عادل أفيوني قال -في تصريحات سابقة لـ”الإندبندنت”- أي زيادة لرؤوس الأموال غير ممكنة قبل أن يكون هناك تقييم شفاف لأصول المصارف وخسائرها، بالتالي تحديد واضح لقيمة كل مصرف، فالمطلوب اليوم زيادة رأس المال بسيولة خارجية لا بتمارين دفترية، وهذا مستحيل قبل أن تكون هناك إعادة هيكلة جذرية وشفافة في كل مصرف.

يرى البعض أن فكرة إعادة الهيكلة ستجبر المركزي على تصفية بعض البنوك، لإعادة الاستقرار للقطاع المصرفي الذي يضم حاليا نحو 40 بنكا تعادل نحو 167% من الناتج الاقتصادي في البلاد في أخر ذروة له عام 2015، ما يعني أن هذه الفكرة غير صالحة في الوقت الحالي وستكون آثارها مدوية وستجلب خسائر لعملاء هذه المصارف لا حصر لها.

حاليا البنوك اللبنانية عاجزة عن سداد كامل التزاماتها، ولا شك أن المودعين اللبنانيين وحملة أسهم البنوك والسندات خسروا جزءا كبيرا من أموالهم تحديدا الكبار منهم، جراء الأزمة الراهنة، لكن أيضا هناك بلدان تضررت من الأزمة، فعلى سبيل المثال سوريا، هناك رقم يتراوح ما بين 20 مليار إلى 42 مليار دولار يعود لسوريين محتجز لدى البنوك اللبنانية، وبحسب “مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية”، هناك ما يصل إلى 20٪ من احتياطيات اليمن من العملات الأجنبية “نحو 240 مليون دولار” عالقة في البنوك اللبنانية.

حتى اللحظة يسعى المركزي اللبناني للحيلولة دون خفض كبير لقيمة الودائع والأرصدة المحتفظ بها لديه ولدى المصارف المحلية، لكن الأمر لن يجدي نفعا، حتى في حال قامت حكومة تصريف الأعمال بخفض الدعم -وهو أمر قد يفجر الأوضاع في الشارع- للحفاظ على المتبقي من الاحتياطات الأجنبية، فالوضع بات متأزما إلى حد لا يمكن الاستمرار بدون الحصول على أموال المانحين، الأمر الذي يتطلب تشكيل الحكومة العتيدة والشروع في الإصلاحات الاقتصادية التي تطالب بها الجهات المانحة بما في ذلك صندوق النقد والبنك الدولي.. وفي حال نجح لبنان بنهاية المطاف في إعادة هيكلة ديونه الخارجية والحصول على منح وقروض جديدة، فالبنوك لن تستطيع تعويض مجمل خسائرها في لمح البصر الأمر سيتطلب سنوات قادمة.

ربما يعجبك أيضا