الهبة الفلسطينية ورهان الاحتلال.. الحرب وسيلة لإخفاء الفشل السياسي

محمد عبد الدايم

كتب – د. محمد عبدالدايم

الوقت لا يزال مبكرا لإلقاء الضوء على نتائج العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة على غزة، مع توقع أنها ستتوقف بعد ضغوط خارجية، مصرية وأممية في الغالب، حيث سيتم التوصل لتهدئة، هذا على المستوى العسكري والعملياتي، أما على المستويات السياسية والاجتماعية داخل إسرائيل، فلا تبدو التهدئة قابلة للتحقق بضغوط خارجية، أو تعقل داخلي، فالطيش الإسرائيلي ترك هذه المرة آثارا كبيرة على المجتمع المتشظي في الداخل، أما على الصعيد الفلسطيني فقد ترك جذوة المقاومة مشتعلة، بعدما اعتبرها البعض قد خبت.

63548 1

مسيرة إشعال الأحداث

منذ نحو شهر بدأت قوات الشرطة الإسرائيلية في وضع حواجز حديدية في ساحة باب العامود، استعدادا لتنظيم اليهود المتشددين ما يسمى بـ”مسيرة الأعلام” في يوم القدس، وكان مقررا لها بالفعل يوم الإثنين الماضي، قبل أن يتم إلغاؤها، ويقود الدعوة للمسيرات منظمة “لهافا” (منع الاختلاط بالأراضي المقدسة)، وهي منظمة يهودية متطرفة تأسست عام 1999، وتعتبر امتدادًا لحركة كاخ الإرهابية اليهودية، وتعمل على منع “الزواج المختلط”، واحتكاك اليهود بالفلسطينيين، خصوصا في القدس المحتلة.

اندلعت الاحتجاجات الشعبية من الفلسطينيين بالقدس، وتبعها الأحداث الكبيرة في حي الشيخ جراح، الذي تستهدف الشرطة الإسرائيلية إخلاء 28 بيتا من بيوته الفلسطينية وتسكينها لمستوطنين يهود، ومن هنا اشتعلت الأحداث في منطقة تشهد توترا في الأساس، وسرعان ما انتقلت الاحتجاجات إلى مناطق في أراضي 48 والضفة الغربية وقطاع غزة، حتى وصلت إلى الحرب الإسرائيلية على غزة، بالتوازي مع القمع الشديد لفلسطيني الداخل، وإطلاق الشرطة الإسرائيلية أيدي المستوطنين اليهود لتنفيذ “حكم لينش” بحق الفلسطينيين.

72874

الحرب وسيلة لإخفاء الفشل السياسي

الحرب بالنسبة لإسرائيل وسيلة سياسية، يمكن أن تكون منجاة، وقد تنقلب إلى تهلكة، هذا هو واقع الحال دائما، نتنياهو فشل في الحفاظ على حكومته، تكررت الجولات الانتخابية لأربع مرات في عامين، وفي الأخير فشل بيبي مرة أخرى، وبعد 28 يوما من تكليفه بتشكيل الحكومة أعاد خطاب التكليف للرئيس رؤوفين ريبلين، الذي بدوره منحه إلى خصمه السياسي يائير لابيد.

27155

الآن، بعد أن تحول نفتالي بينط رئيس تكتل يامينا بمثابة رمانة الميزان، حتى إنه يفرض شروطه على معسكر نتنياهو، وبعده معسكر “التغيير” المعارض، بسبعة مقاعد نالها تكتله يضع شروطه ليكون رئيسا للحكومة.

بعد فشل مفاوضات نتنياهو- بينط قفز الأخير لجولة ابتزاز مع معسكر رافضي نتنياهو، ثم بدأت العسكرية الإسرائيلية في حربها الأخيرة على الفلسطينيين، ليعلن بينط من جديد توقف المفاوضات مع خصوم نتنياهو، ويدعو لتشكيل حكومة ائتلافية يمينية قُحة.

الدبة على وشك قتل صاحبها

لا يمكن الفصل بين الهبة الفلسطينية في القدس ومناطق 48 وما يحدث في غزة وبين الوضع السياسي الإسرائيلي المتأزم، فمعسكر نتنياهو كان بحاجة إلى القائمة العربية الموحدة التي يتزعمها منصور عباس، بالإضافة إلى تكتل يامينا بقيادة نفتالي بينط، لكن بتسلئيل سموتريتش رئيس حزب الصهيونية الدينية رفض مبدأ انضمام حزب عربي للائتلاف اليمني، في حين واصل بينط ابتزازه لنتنياهو ليتحصل على حقائب وزارية مهمة إضافة لتناوبه على منصب رئاسة الحكومة، تنتهي المهلة أمام بيبي، ولا يشكل حكومة جديدة، فيستغل سلاحه الذي يستعين به دائما: اليهود المتشددون.

unnamed 4

إطلاق أيدي المتدينين من المستوطنين اليهود في أحداث القدس وقمع الفلسطينيين في مناطق 48 التي تُسمى بالمدن “المختلطة” لم يكن مُخططا له بهذه الكيفية، لكن نتنياهو يدرك جيدا أنه يجب أن يطلق العنان لليمين الحريدي والمتشدد، كيلا يخسر هذا الحليف السياسي، لكنه لم يحسب جيدا رد فعل الفلسطينيين بالداخل، وربما بعد انتهاء هذه الأحداث، أو تجميدها مؤقتا يتضح أن كرة الثلج التي دفعها يمكن أن تدهس مساعيه للبقاء كرئيس للحكومة.

دفع نتنياهو نحو إشعال الأحداث في القدس، مع انتهاء الفترة القانونية الممنوحة له لتشكيل الحكومة، وبعدها دفع نحو تصعيد عسكري جديد مع قطاع غزة، وهو التصعيد الذي يتورط فيه الرجل الثاني في الحكومة الانتقالية بيني جانتس، بوصفه وزير الدفاع، الذي تشدق دائما بدوره في الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2014، التي تحمل اسم “الجرف الصامد، حينما كان رئيسا لأركان الجيش الإسرائيلي.

وجد بيني جانتس نفسه أمام خيار العملية العسكرية على غزة، بينما كان في خضم المشاورات مع “معسكر التغيير” الذي يتحرك لإسقاط نتنياهو، وتشكيل حكومة جديدة، وربما تنهي هذه الحرب الإسرائيلية على آمال هذا المعسكر، لأن الرأي العام الإسرائيلي أصبح “متلقنا” لفكرة “القضاء على حماس” بعملية عسكرية شاملة، يدفع إليها نتنياهو ومعسكره، ولا يريدها جانتس، الذي يدرك جيدا أن إسرائيل يمكن أن تخسر كثيرا إذا كررت ما قام به الجيش سابقا، ببدء عملية توغل تؤدي بالتأكيد إلى خسائر بشرية في صفوف الجيش، وهي الخسائر التي تعصف بتاريخ جانتس العسكري، وتنهي على مستقبله السياسي، وفي الوقت نفسه أصبحت فرص دخول منصور عباس لائتلاف حكومي مع معارضي نتنياهو ضعيفة للغاية، بل وربما منعدمة، بعد انتفاض الفلسطينيين بالداخل، وبالتالي يخسر “معسكر التغيير” كل من جانتس، ومنصور عباس، إضافة إلى نفتالي بينط.

عندما تشن إسرائيل حربا، فإن هذا يساهم في إخفاء التصدع الداخلي، بين طوائف الجمهور اليهودي، وخصوصا تقليل الهوة الكبيرة بين الأحزاب الصهيونية، فالحرب تعزز من الالتفات حول الأجندات العامة، وهذا مبدأ تم تلقينه للإسرائيليين على مدى تاريخ الدولة القصير، وفور بدء العمليات العسكرية مع إعلان نفتالي بينط عن إيقاف مفاوضاته مع “معسكر التغيير”، أعلن كل من يائير لابيد وجدعون ساعر وبيني جانتس أن مشاورات تشكيل الحكومة ستتوقف من أجل “الاصطفاف للدفاع عن إسرائيل”.

39845

يمين قديم – جديد دون بيبي

في هذا الظرف، مع اشتعال المناطق الداخلية بانتفاضة فلسطينية وتحريض يهودي يميني، يمكن أن تنتج حلحلة في الموقف السياسي المشلول منذ عامين، حيث يمكن أن يتحقق في الأخير التقاء بين الجانبين، معسكر نتنياهو ومعسكر معارضيه، وربما يكون العائق في هذا اللقاء هو نتنياهو نفسه، وبالتالي يمكن أن تثمر الأحداث الأخيرة عن حكومة جديدة من الفرقاء السياسيين، لكن بعد التخلي عن نتنياهو نفسه، الذي يراوغ منذ عامين للبقاء والتملص من المحاكمة.

ما يمكن أن يدفع اليمين المتشدد للتخلي عن نتنياهو هو نفسه الحدث الذي جمعهما، فقد عمد بيبي بإصرار على “مسيرة الأعلام” وتنفيذ إخلاء منازل حي الشيخ جراح، إرضاء للمستوطنين المتشددين، وبعد أن انتفض سكان القدس من الفلسطينيين، ومعهم فلسطينيو الداخل كله، اضطرت الحكومة لمنع “مسيرة الأعلام” وتأجيل إخلاء المنازل، وهو ما أغضب اليمين المتطرف والحريديم، وربما يضطر حزب هاليكود للتخلي عن بيبي، من أجل الدخول في ائتلاف يميني يُشكل حكومة جديدة – بدون يسار أو فلسطينيين- بعد انتهاء هذه الأحداث العاصفة.

اشتعال الأحداث بين اليهود وبين الفلسطينيين، مع مشاهد نقل المستوطنين بالحافلات للهجوم على فلسطيني الداخل، سيلعب دورا في تفكك “معسكر التغيير”، حيث ستنعدم إمكانية الاعتماد على حزب عربي في الحكومة المقبلة، حتى ولو من خارجها، كما ستتراجع الأحزاب اليسارية، التي سينظر لها الشارع الإسرائيلي “الُجند فكريا لصالح اليمين” بوصفها غير قادرة على تحقيق “الأمن الإسرائيلي”، والنظرة نفسها في الغالب ستنسحب لتصل إلى نتنياهو نفسه، وهذا يعني خيار آخر، يؤدي إلى تشكيل حكومة بائتلاف جديد، لكنها سيكون ائتلافًا قائمًا على أسنة الحرب التي تشنها إسرائيل، وقائم على التوترات الشديدة في مناطق الداخل، مع تسليط الضوء على قضايا فلسطيني 48 الذين سيُواجهون بشكل عنيف، وفي الغالب ستخسر قوائمهم الانتخابية كثيرا، إذا لم تعود للاتحاد مجددا وإذا ما حدث سيناريو الانتخابات الخامسة، وهو سيناريو ما يزال مطروحا بقوة، لأنه بمجرد الوصول إلى تهدئة سيعود الخصوم السياسيين للتفاوض القائم على “الأنا الذاتية”، وبالتالي تتشكل حكومة متقلقلة لا يمكنها البقاء لمدتها كاملة.

أزمات تعصف بكيان إسرائيل

إذًا الحرب بالنسبة لإسرائيل أداة لتحقيق أهداف سياسية، لكنها هذه المرة انفتحت على أزمات متداخلة، حيث أبرزت استفحال آثار الشلل السياسي الحادث منذ عامين، وأظهرت الخلافات الأيديولوجية الكبيرة بين المعسكرات السياسية وبين طوائف الجمهور، كما بينت عواقب تهميش فلسطيني الداخل، ومحاولات إبعادهم عن الأرض، وهي المحاولات التي ثبت فشلها، بل وجاءت بنتيجة عكسية أثمرت عن تمسك هؤلاء بقوميتهم الفلسطينية، وبالتالي استمرار وجودهم شوكة في حلق إسرائيل.

373091

يُضاف إلى هذا كله أن الأحداث الحالية أثبتت أن فكرة “قوة الردع” الإسرائيلية لحماس والفصائل الأخرى في غزة بعيدة كل البعد عما روجت له إسرائيل من إمكانية تحقيق “الأمن” والقضاء على التهديدات التي تصل الآن إلى كل المناطق بالداخل، ومع كل رشقة صواريخ يفقد المواطن الإسرائيلي شعوره بالأمان، ولا يعيده هذا الاستخدام المفرط للقوة، وفي الأخير؛ التهدئة قادمة، لكن الغارات الإسرائيلية على غزة والهبة الفلسطينية بالداخل ستتركان آثارا كبيرة على المُركب السياسي الإسرائيلي برمته.

ربما يعجبك أيضا