«هليوبوليس».. شرفات وذكريات ووجوه راحلة!

شيرين صبحي

رؤية- شيرين صبحي

“أنت دلوقتي فكرتني بأحلى وقت كنت بقضيه في الأمفتريون. كنا كل خميس نروح نتعشى اسكالوب بانيه، أحلى اسكالوب بانيه في القاهرة. قدامه على طول كان هليوبوليس بالاس، أكبر فندق في القاهرة.

– ده كان أكبر أوتيل في أفريقيا والشرق الأوسط كمان.

– في الناحية التانية، في البوكي، في الكوربة، كان فيه محل شانتييه. عملته واحدة ممرضة أجريجية، كانت مسمياه “هوم ماد كيك”.

– آه طبعا عارفها كويس أوي. بتمشى دايما في الحتة دي كتير. لما نفسي تاخدني ساعات بروح. اتفرج على العمارات، الشوارع الهادية.. كده يعني. هو حضرتك ما بتخرجيش بقالك قد ايه؟

– انزل فين؟ ما اقدرش انزل. أنا عايشة لوحدي. تعبانة. ضهري بيوجعني، محتاجة حد يساعدني. أنزل أروح فين”.

تستعيد السيدة اليهودية ذكريات زمن ولّى ولن يعود، لكنها لا تدرك أن معالم حي مصر الجديدة العتيق قد تغيرت كثيرا، لكن عزلتها داخل شقتها حجب عنها ذلك التغيير. تدور أحداث فيلم “هليوبوليس” من خلال خمس قصص متوازية، بالكاد تتقاطع حيواتهم. بينما تزدحم القاهرة شيئا فشيء، تبقى التفاصيل الصغيرة تحكي حكايات سكانها. يوم واحد تتشابك فيه خيوط القصة، وتتقاطع أحلام الشخصيات. ورغم أنه يوم عادي بالنسبة للجميع، إلا أن الجميع سيعرفون أن هذا اليوم قد انتهى بلا طائل، وربما عليهم إعادة كل شيء من جديد في يوم آخر، في هليوبوليس.

530398Image1 1180x677 d

أنتج الفيلم عام 2009، بميزانية ضئيلة، قام بتصويره شباب سينمائيين جدد، أغلبهم يخوض تجربة الفيلم الطويل لأول مرة. المؤلف والمخرج أحمد عبداللـه السيد، يرى أنه ليس فيلماً يبحث عن الزمن الضائع، ولكنه يُكثف بوضوح نتائج هذا الزمن الضائع، فهو ليس فيلماً عما يحدث ولكن عما لا يحدث. كل شخصيات هليوبوليس تخسر ما كافحت من أجل الحصول عليه.

التفرد المعماري لحي “هليوبولس”، يقابله تفرد سكاني، حيث يضم أقليات، طوائف، وعوالم خاصة. الفيلم بطولة خالد أبوالنجا، هند صبري، حنان مطاوع، وعايده رياض.

يؤرخ الفيلم للحقبة الزمنية التي نعيشها، فيتحدث عن العنصرية والخلط بين اليهودية والصهيونية، من خلال شخصية السيدة اليهودية. كما يعبر عن الأزمة التي يعيشها الشباب المقبلون على الزواج،  في البحث عن شقة أو شراء بعض المتطلبات، حيث يفشل الثنائي عاطف يوسف وآية سليمان فيما أرادا تحقيقه هذا اليوم بسبب مرور موكب رئيس الجمهورية الذي شل شوارع الحي العتيق.

ذكريات المكان

ومن الفيلم إلى رواية تحمل نفس العنوان للكاتبة مي التلمساني، وفيها تسترجع ذكريات المكان الذي ولدت فيه، لتصف حياة عائلة من عائلات حي مصر الجديدة. تعود الراوية لسنوات المراهقة والنضج، وسط عائلة من الطبقة المتوسطة، لها عاداتها وتقاليدها، وإرثها الاجتماعي والثقافي.

حياة حي كامل نتعرف عليه من خلال حياة عائلة تعيش داخل إحدى العمارات، حيث تتنقل البطلة “ميكي” بين ثلاثة بيوت؛ بيت الجدة “شوكت هانم”، بيت العمة “آسيا”، وبيت “زوزو” والدة البطلة.

54124158

 في الرواية تتراءى مصر الجديدة بأجوائها، عمارتها، مكتباتها، ومقاهيها، سلوكيات سكانها، فتسترجع البطلة أطياف العائلة كما تستدعي المشاهد القديمة، تعود إلى حيوات وعوالم انقضت، لم يبق سوى روائحها وحكاياتها المطبوعة في الذاكرة.. “نزرع الريحان في شرفة منزلنا بالطابق الخامس. نرويه كل صباح مرة ونربت على عيدانه المتربة فتنتقل إلينا رائحته والتراب. في شرفة الطابق الرابع تقبع الجدة شوكت، لا هي داخل الشرفة ولا هي خارجها، فقط عند حدودها حيث تخترق أشعة الشمس البلاط والعظام المتعبة”.

تتغير المشاهد وينقضي الزمان ويترك آثاره على الأشياء.. “شرفتنا الآن بلا رياحين، تعلو سورها الحجري أعمدة الألوميتال والزجاج البني العاكس للشمس الذي يحتفظ بالحرارة في الغرف القبلية. الجدة شوكت التي ماتت منذ سنين تركت شرفتها ومقعدها الأسيوطي لصاحب البيت الذي باع المقعد وأصبح يؤجر الشرفة للطلبة النازحين من السودان. العمة آسيا ماتت مؤخراً وتركت الكرسي البامبو لزوجة أحد أبنائها والعفاريت تحت الأريكة لأحفادها. الكرسي البامبو المطلي باللون الأخضر الزيتوني يؤدي وظائف متعددة فضلاً عن استقبال الزائرين، فهو يصلح مائدة لطبق الغسيل المصنوع من البلاستيك أو قفصاً لحبس الديوك الرومية التي تربيها زوجة الإبن أو مسنداً لمنع الكليم المفرود على السور المزين بزخارف نباتيه من الطيران. عندما ماتت العمة أمينة بكيتها وجلست ساعتين مساء الخميس للعزاء على مقعدها المفضل في الشرفة التي كان المعزون يتوافدون عليها كلما ازدحم الصالون. وعندما غادرت الشرفة أخيرا كنت موقنة أني لن أعود إليها إلا في المناسبات، كما تعودنا دائماً.. هكذا، لم تبق لي في مصر الجديدة شرفة واحدة”.

الخروج!

“أمام مدخل العمارة الفسيح بحي مصر الجديدة، لم يُسمح لهم باللهو واللعب بعيدًا عن ذلك المكان على الرغم من وقوع الحديقة الواسعة أمام البيت مباشرة والتي يفصلها الشارع – ذو الاتجاه الواحد- عن البيت. فقط هنا أمام مدخل تلك العمارة التي لم تتجاوز الأدوار الستة. هو بثيابه التي اتسخت من جراء اللعب والركض والعبث. وهي بثوبها النظيف الذي كانت تحرص على أن تُبقيه نظيفًا طوال اليوم”.

في روايته “الخروج من مصر الجديدة”، يخرج الكاتب إسلام محمد عيسى، عن الإطار التقليدي لقصة حب بين شاب وفتاة، وينقلنا بين أرجاء حي مصر الجديدة، لنبحث عما أضاعته الأيام بداخلنا. هي رحلة للبحث عن صديق قديم، وعن حي قديم ما زال موجودا.

27615019

تحكي منطقة مصر الجديدة تاريخ كتيبة كبيرة من المعماريين والتجار والسياسيين ممن قرّروا تشييد مدينة تمزج بين الثقافات الشرقية لتكون منتجعاً للأجانب والنبلاء، واستراحة لقادة الجيش البريطاني ممن كانت ثكناتهم متمركزة بشكل أساسي في منطقة العباسية، كما توضح المؤرخة أميلي دارشو، في كتابها “رواية مصر الجديدة”، مشيرة إلى أن جدها نوبار باشا استطاع بفضل علاقته الوطيدة بالسلطان حسين كمال الحصول على سبعة آلاف هكتار من الأراضي بسعر زهيد للغاية لإقامة المشروع.

تقول: “أراد جدي نوبار باشا والبارون إدوارد إمبان إقامة مشروع استثماري يحقق أرباحاً وفيرة من جيوب طبقة النبلاء، وبالفعل كانت مصر الجديدة مشروعاً استثمارياً ناجحاً إلى جانب كونه صفحة جميلة أضافها البلجيكيون لتاريخ مصر”.

تروي أن العاملين على تشييد الواجهة المعمارية لمصر الجديدة عشقوا الطراز العثماني والفاطمي والمملوكي، وراعوا المساحات الخضراء الواسعة وتهوية المنازل من خلال الشرفات والأبواب الواسعة العالية. تقول: “لم يكن هناك بحر أو مسطح مائي في مصر الجديدة كعادة المنتجعات التي يفضّلها الأجانب لذا عمل المعماريون على أن يكون زبائنهم في مصر الجديدة مدللين للغاية فأنشؤوا لهم ملعب جولف ومضماراً لسباق الخيل ومطارا”.

الحب في مصر الجديدة

منذ كانت “نجوى” طالبة في مدرسة الراهبات في المنيا، تعلقت بأبلة “تهاني” معلمة الموسيقى، التي طردتها المدرسة بسبب رفض طريقتها في التدريس، حيث كانت تلفت انتباه الفتيات للحب، وتعلمهن أغنية ليلى مراد “أنا قلبي دليلي قالي حاتحبي”.

في فيلم “في شقة مصر الجديدة”، يفتح المخرج الراحل محمد خان، الباب على مصراعيه أمام الحب، ويدخل عالم الناس العاديين الذين لا يلتفت إليهم أحد، ليمنحهم نوعا من البطولة، التي لا تتحقق في حياتهم العادية. الفيلم تأليف وسام سليمان، وبطولة غادة عادل، خالد أبو النجا، عايدة رياض، أحمد راتب، مروة حسين، ويوسف داوود.

Fe.Shakt .Masr .El .Gedida.2007

يحيى الشاب المتحرر الذي يعمل في البورصة، الساكن في شقة مصر الجديدة، التي كانت تسكنها تهاني واختفت منذ عام، فيؤجرها صاحب العمارة ليحيى الذي يعمل في البورصة، بشرط أن يحافظ على خطابات نجوى لتهاني وكل أشيائها.

تذهب نجوى إلى القاهرة في رحلة مدرسية، فتبحث عن تهاني، لكنها تفاجأ بان مدرستها رحلت من الشقة، ويسكنها يحيى خالد أبو النجا وفي نهاية الفيلم تأتي رسالة إلى نجوى من معلمتها تهاني وفي اللحظة الأخيرة تتخلى نجوى عن سماع الرسالة من أجل الحب الذي هو الأول في حياتها.

ينتهي الفيلم بعد أن يعلم الجميع أن معلمة الموسيقى تعيش في إحدى المحافظات وهي بخير، ويكون على نجوى بذلك أن تعود إلى ديارها في وقت كانت تنزلق به في إحساس حب جميل، ونسمع شريط الصوت بيقول (يا مسافر وحدك) ونجوى مع عم عيد عشان يوصلها المحطة يمكن تلحق القطار المرة دي وتليفونها يرن، ونسمع بلاش تسافر ويحيى بيجري وراء التاكسي عشان يقول لنجوى إن تهاني موجودة، في محطة القطار تدرك أنها تجهل رقم هاتفه، تسأله عنه وقد بات زجاج نافذة القطار يفصل بينهما، فيمليه عليها، ويختم الفيلم بمشهد لنجوى وهي تتمتم بالرقم.

في الفيلم، تتبدل القاهرة المزدحمة إلى مدينة كلاسيكية دافئة، يغيب التلفزيون، ويصدح الراديو بالأغاني الرومانسية القديمة وصوت ليلى مراد.

ربما يعجبك أيضا