«الحرب الصناعية».. كيف تستعد لها الولايات المتحدة وأوروبا؟

آية سيد
الحرب الصناعية

كانت الصدمات الجيوسياسية الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية وطموحات الصين في بحر الصين الجنوبي بمثابة إنذار لصناع السياسة الغربيين بعودة منافسات القوى العظمى.


لفترة طويلة، تجاهل صناع السياسة الغربيون التحديات، التي تشكلها الحرب بين الدول على الاستقرار العالمي.

لكن الصدمات الجيوسياسية، الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية، وطموحات بكين في بحر الصين الجنوبي، كانت بمثابة إنذار لللحكومات، وفق أستاذ الدراسات الأوروبية في “كينجز كوليدج لندن”، ألكسندر كلاركسون.

ثورة في الحرب الحديثة

في مقال نشرته صحيفة “وورلد بوليتيكس ريفيو“، يوم أمس الأربعاء 12 أكتوبر 2022، ذكر كلاركسون أنه مع دخول الاتحاد السوفيتي المرحلة النهائية للانهيار، تعرّف الأوروبيون إلى نوع جديد من الحرب.

ففي حرب الخليج الثانية في ربيع 1991، كشفت الولايات المتحدة عن ما وصفه الكثير من المحللين بـ”ثورة في الحرب الحديثة” عبر ضربات الذخيرة دقيقة التوجيه، التي أجبرت الجيش العراقي على الانسحاب من الكويت. وبعدها بأشهر قليلة، تصاعدت المعارك بين القوات شبه العسكرية المتنافسة في الجمهوريات اليوغوسلافية السابقة.

مسارات سياسية مختلفة

بحسب كلاركسون، ميّزت حرب الخليج الثانية والحروب التي نشأت من انهيار يوغوسلافيا، بداية عقدين من العمليات العسكرية التي دمجت فيها دول حلف الناتو الضربات الدقيقة بعمليات حفظ السلام، وبناء الدولة ومكافحة التمرد في أوروبا والشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أنها أدت إلى مسارات سياسية مختلفة تمامًا، فإن الحروب بين الدول التي خلفت يوغوسلافيا في التسعينيات، ومهام مكافحة التمرد في العراق وأفغانستان ومنطقة الساحل بداية الألفية الثانية، حددت تجربة جيل كامل من صناع السياسة الغربيين.

كيف تشكل التفكير الاستراتيجي؟

كان استخدام الذخيرة دقيقة التوجيه لشل حركة الخصم نتاجًا للتطور التكنولوجي والمناقشات العقائدية، التي أعادت تشكيل التفكير الاستراتيجي لأعضاء الناتو والضباط السوفييت بداية من الثمانينيات.

وفي الوقت ذاته، بعد سقوط جدار برلين، ركز المنظرون العسكريون الأمريكيون على الأماكن المضطربة التي تشهد فشل الدولة والإرهاب كتهديد رئيس للأمن العالمي، بحسب كلاركسون.

تأثير العولمة

قال الكاتب إن التركيز على خصخصة المهام الأساسية للمشتريات واللوجيستيات الدفاعية، إلى جانب الاستخدام واسع النطاق للمتعاقدين العسكريين، أثّر في كيفية تخطيط العمليات وتنفيذها، أولًا في البوسنة وكوسوفو ثم على نطاق أوسع في التدخلات الفاشلة بالعراق وأفغانستان.

وأوضح أن هذا الاعتماد المتزايد على الشركات متعددة الجنسيات، ورأس المال المالي لأداء مهام الأمن القومي الأساسية، كان مدفوعًا بالاعتقاد واسع الانتشار بأن ديناميكيات السوق قد تؤدي إلى نتائج أمنية أكثر كفاءة من مؤسسات الدولة، التي لم تواجه منافسة خارجية.

الاعتماد على القطاع الخاص

أضاف كلاركسون أن هذا الاعتماد الكبير على القطاع الخاص، في تطوير المهام العسكرية الرئيسة وإدارتها، عكس فترة من تقليص الميزانيات الدفاعية، في الوقت الذي كانت روسيا تكافح للتعافي من فوضى انهيار الاتحاد السوفيتي وأصبحت الصين ركيزة لسلاسل الإمداد العالمية.

وأشار إلى أن منظري الأمن القومي الأمريكيين وصناع السياسة في الناتو اعتقدوا أن البنتاجون يحتاج إلى “خريطة جديدة” تركز على إدارة الدول الهشة والفاشلة، وملاحقة الجماعات الإرهابية العابرة للحدود.

وهنا بدت الحاجة إلى استحداث قوات تدخل سريع بهدف استعادة الاستقرار في المناطق المضطربة، أكثر إلحاحًا من المهمة المعقدة المتمثلة في إعداد المجتمعات الغربية لأشكال الحرب بين الدول المتقدمة تكنولوجيًا، التي ظنوا أنها تنتمي إلى عصر بعيد.

طموحات إستراتيجية

لفت الكاتب إلى أن صناع السياسة الأوربيين والأمريكيين استغرقوا وقتًا طويلًا للالتفات إلى تحذيرات المحللين، الذين أعربوا عن قلقهم المتزايد من الطموحات الاستراتيجية للأنظمة الاستبدادية.

وبينما انشغلت الجيوش الأوروبية بالآثار المزعزعة للاستقرار الناجمة عن الحرب الأهلية السورية، وحملة القضاء على تنظيم داعش، عكس الجزم الصيني المتزايد في منطقة الهندوباسيفيك ،وسيطرة روسيا على القرم في 2014 أن تحديًا متناميًّا للأمنين الأوروبي والأمريكي.

الحرب الروسية الأوكرانية

احتاج الأمر إلى صدمة شديدة بحجم هجوم روسيا الشامل على أوكرانيا في فبراير 2022، على حد وصف الكاتب،  كي تدرك الحكومات الأمريكية والأوروبية إلى أي مدى تحتاج إلى التكيّف مع التهديدات التي الطموحات التوسعية للقادة الاستبداديين.

ووفق كلاركسون، فإن الحجم الهائل للجهد العسكري اللازم لدعم أوكرانيا في صراعها على البقاء، قدم دليلًا قويًا على كيف أن التركيز على عمليات إرساء الاستقرار المحدودة ومكافحة التمرد شوّهت الأولويات الدفاعية للجيوش الأوروبية على مدار العقدين الماضيين.

وشدد على أن تطبيق توجهات السياسة النيوليبرالية يبدو وأنه عفا عليه الزمن، عندما يواجه الأوروبيون تحديات أمنية متصاعدة على حدودهم.

نقص الجاهزية

قال الكاتب إن جهود دعم أوكرانيا في حربها، التي تحتاج إلى إنفاق الذخيرة والمعدات على نطاق واسع، ألقت الضوء على نقص الجاهزية داخل الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، لتلبية مطالب الحرب الحديثة. وفي ظل استمرار القتال، صارعت الولايات المتحدة أحيانًا للحفاظ على التدفقات العسكرية لكييف.

وبحسب كلاركسون، خدمت الحرب الروسية الأوكرانية كتذكير صارخ بأن مواجهة الصراع المسلح بين دول نظيرة، تتطلب إعادة تقييم جذرية لكيفية استعداد الولايات المتحدة وأوروبا للحرب. وتعيّن على الدول الأوروبية الموازنة بين إمداد أوكرانيا عسكريًّا، ومتطلباتها الدفاعية الأساسية في وجه المخزون الآخذ في التناقص.

التكيف مع التحديات الجديدة

أضف المقال أن هذا أظهر كيف أن نهج “في الوقت المناسب” تجاه المشتريات ترك الاتحاد الأوروبي والناتو معرضين لمتطلبات نوع من الحرب تستهلك كميات ضخمة من الموارد لفترات طويلة.

ولكن صراعات واشنطن لإدارة التحديات المتعددة من روسيا والصين وإيران وغيرهم من الجهات الفاعلة، أجبرها على إعادة تقييم حجم التركيز على الذخيرة دقيقة التوجيه المكلفة‘ الذي أُخذ في الحسبان في المستويات الهائلة للمواد اللازمة لضرب أهداف خارج ميدان المعركة.

وفي حين أن الولايات المتحدة تمتلك الموارد للتكيف مع التحديات الجديدة سريعًا، تحتاج الدول الأوروبية إلى الانخراط في جهد موسع لاستعادة أساسيات الجاهزية العسكرية، بسبب حاجتها إلى الاعتماد على الذات، للاستعداد لأي تخفيض في التزامات واشنطن تجاه أمن أوروبا، بحسب كلاركسون.

إدراك المتطلبات الجديدة

ذكر الكاتب أن الاتحاد الأوروبي وبريطانيا لم يعد بوسعهما معاملة إنتاج الأسلحة كممارسة حِرفية، وإنفاق مبالغ ضخمة على منظومات معقدة بشدة، تستغرق سنوات لإنتاجها وتطويرها بأعداد صالحة للاستعمال.

لكن يحتاج الأوروبيون إلى الاعتراف بالحقائق المادية للحرب بين الدول، حين تحدد القدرة على زيادة تصنيع السفن والدبابات والمدفعية والمسيرات والطائرات بأعداد كبيرة ما إذا كانت المؤسسات الديمقراطية تستطيع النجاة في ظل الصراع المتصاعد.

الحرب الصناعية

في حين أن الذخيرة دقيقة التوجيه والمنظومات المعقدة تكنولوجيًّا تلعب دائمًا دورًا حاسمًا، قال كلاركسون إن عودة الحرب الصناعية تعني أن القدرة على إنتاج كميات ضخمة من منظومات الأسلحة الرخيصة والقوية وسهلة الاستخدام ينبغي أن تكون بنفس القدر من الأهمية في المستقبل.

وقال الكاتب إن الحاجة إلى الحفاظ على وحدات المشاة الخفيفة، وكذلك الكتائب الثقيلة “تجعل الاندماج المنهجي بين الدول الأوروبية، القائمة على البنية التحتية المشتركة للناتو أساسيًَا لإدارة التهديدات الأمنية المتعددة في وقت واحد”.

وإضافة إلى هذا، التخطيط اللازم للحفاظ على هذه الأشكال من الحرب حامية الوطيس، في عصر الذخيرة دقيقة التوجيه، يتطلب مستوى من التنسيق بين الدولة، الذي يجعل التركيز النيوليبرالي على كفاءات السوق إلهاءً باليًا ليس بوسع الاتحاد الأوروبي وبريطانيا تحمله.

واختتم الكاتب بأن الدرس الذي ينبغي أن يتعلمه الأوروبيون من العصور السابقة لمنافسة القوى العظمى هو أنه لا يمكن حماية الديمقراطية بثمن بخس.

ربما يعجبك أيضا