الدراما المصرية.. جامعة الدول العربية سابقا

أماني ربيع

أماني ربيع

دقات الساعة تعلن، الثامنة مساء، الأم انتهت من ترتيب المنزل، الأبناء انتهوا من واجباتهم الدراسية، الأب عاد من عمله، المنزل نظيف والكل سعيد بعد وجبة الغذاء، وما يتضمنها من مزاح وتناول لأبرز أحداث اليوم لدى الجميع، يمتد وقت “اللمة الحلوة” حيث يجلس الجميع أمام شاشة التلفزيون ليتابعوا أحداث مسلسل القناة الأولى.

لم تكن هناك زحمة مسلسلات ولا مواسم بعينها؛ فالمسلسل الجيد موسم بحد ذاته، ولم تكن هناك بعد قنوات مخصصة للدراما مسلسل على القناة الثانية الساعة السادسة، وأخر في الساعة الثامنة على القناة الأولى، كانت الشوارع -حرفيا- تخلو عندما يعرض مسلسل “ناجح”، فلم يكن هناك يوتيوب ولا إعادة، وكان بإمكان بعض العائلات التي تمتلك فيديو، أن تسجل حلقاتها المفضلة ليراها الغائبون، وهو الأمر الذي نمتن له لأنه حفظ لنا الكثير من كنوز التلفزيون المصري.

الجميل أن “اللمة الحلوة” لم تكن مصرية فحسب بل امتد الحضن المصري الدافئ ليشمل الوطن العربي كله، ومع مسلسلات مثل “ليالي الحلمية”، و”الشهد والدموع” و”الوسية” و”المال والبنون” تجمعت العائلات من المغرب إلى دمشق والعراق، مرورا بالسودان ودول الخليج، لتتحول معها اللهجة المصرية إلى لهجة بيضاء أو “اسبرانتو” يفهمه جميع العرب.

على الأيام الحلوة عيوني دمّعوا

بسبب ظروف عملي، هجرت زحام الفضائيات منذ فترة إلى عالم اليوتيوب الذي أشكله وفقا لمزاجي الخاص، وعندما كنت أشاهد مسلسلاتي المفضلة، وجدت التعليقات على حلقات هذه المسلسلات مذهلة.. ومُبكية، فوجئت أن هذه المسلسلات ليست مجرد ماضٍ بل لا يزال لها إلى الآن جمهور من الشباب، وتحديدا الذين ولدوا في منتصف الثمانينيات إلى بداية التسعينيات، لم يكن هؤلاء الشباب مصريون فحسب بل توانسة ومغاربة وسوريون وعراقيون، من السعودية إلى الجزائر ومن السودان إلى اليمن، كل التعليقات اجتمعت على حب مصر، وعن الذكريات الجميلة مع هذه المسلسلات وحكايتها التي مسّت قلوبهم أينما كانوا.

كان قلبي يخفق من وطأة هذا الحب العفوي الذي لا ينتظر الظهور على شاشة أو التباهي أمام الناس بما يقول…
ومن المغرب العين تدمع على الأيام الحلوة

Rachid Bammi: “اللللللللللله على الأيام الحلوة عيني دمعوا! أيام الزمن الجميل والجيل الذهبي، مغربي يحب الفن المصري القديم”.

ومن الجزائر: سحرونا المصريين

الساسي أحمد: “السلام أخوكم من الجنوب الجزائري أين هذه الأيام الحلوة، والله سحرونا المصريين”.

تحية لمصر العزيزة من اليمن

“مصر الحبيبة غالية على قلوبنا، ونحن باليمن نعتز بالأشقاء في مصر وثقافتهم أثرت الإرث العربي والفن المصري الأول بلا منازع تحية لمصر العزيزة”.

ليه يا زمان مسبتناش أبرياء

“أيام لمة العيلة كلها الساعه 8 قدام المسلسل مكنش حد بيخاف من لفظ خارج يطلع من ممثل ولا قصة شعر جديدة ولا شوية عيال مسقطين البناطيل، ليه يازمان مسبتناش أبرياء فعلا”.

من بلاد الرافدين إلى بلد النيل
 Anur Abdlla: “تحية خاصة من بلد الرافدين الى بلد النيل الحبيب بلد الحضارات بلد الثقافة ربنا يحفظكم اخوكم من العراق”.

صوت الجزائر من القاهرة”.
smail 54: “كجزائري مازلت إلى الآن أسمعها واحس بالغصة في قلبي لأنها تذكرني بصورة جمال عبد الناصر وهو يدعم الثوار والمجاهدين في بلدي من جهة وتذكرني بصوت الجزائر من القاهرة ومن جهة أخرى بذهاب هواري بومدين إلى الاتحاد السوفييتي وطلبه سلاح لمصر وقدم شيك على بياض…حين كنا أخوة”.

ومن سلطنة عمان يا حبيبتي يا مصر

Moad Alsaadi: “من أجمل المسلسلات المصرية الخالدة للعبقري محمود عبد العزيز، يا حبيبتي يا مصر تحيه لك من اخوانك سلطنة عمان”.

كانت الدراما المصرية سفيرا فوق العادة
“أشهد الله أني أحبكم يا أهل مصر والله الدي ﻻ إله اﻻ هو المسلسلات المبنية على قيم إنسانية نبيلة كانت إلى وقت قريب بمثابة سفير فوق العادة ينبئ بلسان حال المصري اﻷصيل الذي لطالما أحببناه مند زمن”.

رصيد من المتعة والأخلاق

شاهدت مرة لقاء للقديرة الراحلة سناء جميل على قناة “ماسبيرو زمان”، كانت المذيعة تسألها فيه عن الدراما ودورها فردت سناء: “هي رب أسرة آخر في المنزل”.

يعبر هذا الرد بصدق عن طبيعة الدراما المصرية في ذلك الوقت حين كنا ننتظر أمام الشاشة لنرى نجوما من وزن محمود مرسي، عبد الله غيث، نور الشريف، ونجلس في شغف نتابع قصصهم وكأنها جزء من حياتنا، تضيف لنا رصيدا من الأخلاق والمتعة رغم فقر الإنتاج والإمكانات.

لم يكن المخرج يأخذنا إلى شرم الشيخ أو يسافر أوروبا ليبهرنا بل كان الأداء الصادق يأخذنا معه فنصدق ديكور الأستوديو الداخلي، نصدق الخدع الهزيلة لفوازير شيريهان وفطوطة ونكمل ما نقص من خيالنا الخاص.

انتظرنا أيضا نجوم الكلمات كسيد حجاب والأبنودي، ونجوم الأنغام كعمار الشريعي وميشيل المصري وياسر عبد الرحمن، ونجوم الإخراج يحيى العلمي، محمد عبد الحافظ، مجدي أبو عميرة، محمد فاضل وغيرهم.

مسلسل أو اثنان كانت تلتف حولهم العائلة في كل يوم، بينما الآن طوفان مسلسلات أشكال وألوان لا تترك بعد نهايتها في النفوس أثرًا، المنافسة دوما مشتعلة على من الأعلى أجرا ومن الأكثر حضورا على السوشيال ميديا، من يتصدر التريند، انتهت اللمة بعد أن تفرق عقد الأسرة بين القنوات واليوتيوب والموبايل.

حسنا، بعد المقدمة الطويلة لنتذكر معًا بعضًا من أبرز المشاهد في الدراما المصرية

المال والبنون

” *المال ده حرام يا سلامة
 – أووه إيه حرمه بس ده مال الناس كلها يا جدع
 * أنا عايز أربي ولادي من مال حلال
 – ما هو ربنا باعتلك رزقهم عشان تربيهم
 * طب انزل قول للناس كلها وللحكومة إن ده رزق وجالك تقدر يا سلامة؟
– الحكومة هتاخده يا عباس وإحنا أولى بيه
* ما دام خايف وبتدراي تبقا سرقة يا سلامة اسمع كلامي ربنا مش هيبارك
 – اسمعني انت يا عباس يا اخويا إحنا طول عمرنا على باب الله ناكل طقّة ونجوع طقّة عشان نربي عيالنا كويس ونعلمهم، وربنا ادانا العيال وطول عمرنا بنحلم بالمال عشان نربيهم وآهو المال جانا من أوسع الأبواب ومش بعد ما ربنا حقق حلمي أقول لا، أنا مش هطرد رزق ولادي
* متخليش الشيطان يضحك عليك يا سلامة
– ما هو احنا لو ماخدناهوش هيدوه لحد تاني في الصاغة
 *مالناش دعوة ولا تذر وازرة وزر أخرى اسمع كلامي يا سلامة
– هو ده بس اللــ انت حافظه من القرآن، طيب ما تقول المال والبنون زينة الحياة الدنيا، وأهو ربنا إدانا العيال ودلوقتي إدانا المال عشان الزينة تكمل.
* طيب ما تكمل يا سلامة… كمل… المال والبنون زينة الحياة الدنيا.. هااااا.. كمل.. قول: والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا.. صدق الله العظيم”.

مشهد البداية من المسلسل الشهير المال والبنون، هذا المسلسل وغيره من المسلسلات التي كانت أكثر المرايا صدقا، نرى فيها عيوبنا، تعلمنا وتهذبنا وتمتعنا أيضا بالرقي في الأداء وعذوبة الحوار.

كانت الحبكة تدور حول صديقين يعملان في الحسين الصدفة تقودهم إلى كنز من آثار الفراعنة، “عباس الضو” يرفض ما يراه صديقه “سلامة فراويلة” نعمة ويعتبره مالًا حرامًا، لتبدأ القطيعة بينهم وتمتد الحكاية إلى أبنائهم وتتحقق نبوءة الضو، فالمال الحرام أضاع ذرية فراويلة، كل هذا عبر نسيج درامي يبرز القيم، ربما بدا عباس الضو مجرد مُنظر فمن يصمد أمام إغراء المال، وما يعد به من جاه، لكن منذ بدء الخليقة كانت سنة الله في الكون الاختلاف، الغريب أن في دراما اليوم لم تعد تجارة الآثار آثمة وصارت أمرا عادية هي جريمة سرقة وليست خيانة.

ربما يبدو مسلسل المال والبنون “دقة قديمة” لمشاهدي اليوم، فالمسلسل من عصر كان فيه الأبيض واضحا والأسود واضحا، والآن هناك خمسون ألف ظل للرمادي وأكثر من ميزان للقيم.

لن أعيش في جلباب أبي

“- قوله مش موافقة يا بابا
* مش موافقة ليه.؟! ده إنتي كنتي زعلانة أوي ساعة ما طلقك
– أيوة.. لأني ساعتها حسيـت إن أنا مظلومة، حسيت إن أنا ماليش لا قيمة ولا كيان، أبوه يضغط عليه فيتجـوزني، وبعد كده يحس إن هو مش محتاجني فيطلقني، ويطلقني بعـد ما أتعلـق بيه، وبعدين فجأة يحس إن هـو محتاجلي تـاني أو يحس إن هو ندمان فيقـرر إن هـو يرجعني تاني، لا يا بابا لأ حتى لو بحبه كرامتي فـوق كـل إعتبار.”

من بين كل أولاد عبد الغفور البرعي، كنت أرى بهيرة دوما الأقرب لأبيها، لم تكن مستكينة لا تملك قرارها مثل سنية، ولا مشتتة وتائهة مثل عبد الوهاب، ولا مصابة بعقدة “ثروة أبيها” مثل نظيرة، ولا طماعة وحقودة مثل “نوفا” كانت شخصية محبة للحياة لا تشغل بالها بشيء لا يخصها، أحبت بصدق وأرادت أن تكون سعيدة، ورغم أن فلوس أبيها كانت سببا في انفصالها عن زوجها لم تعتبر تلك شماعة تعلق عليها ما حدث واعتبرت طليقها أساس المشكلة فهو سيد قراره، وعندما قرر الجوع إليها بعد أن حقق ذاته وكون مصنعه، لم تكن لقمة سائغة لعبت أمامه بمنطق أبيها لكن بالأصول، لم تدع الحب يقلل من كرامتها، وصنعت بذلك مثالا مخالفا لشقيقتها سنية المستكينة “الهبلة” كما يقولون، حتى أن عبد الغفور رغم خوفه على مستقبل ابنته “اتمزّج بالكلام” واعتبر بهيرة “نمرة” وأنها “بنت عبد الغفور البرعي بحق”.

أبو العلا البشري

“* لا يا نجوي أنا بتكلم جد
– أنا آسفة يا عمي
* أنا بتكلم عن الحب المثالي بعذريته برومانسيته, بلمسة الطُهر اللي فيه, بروح الشاعرية اللي جواه زمـان، كنا بنحب زي.. زي ما نقرأ شعر أو نسمع مزيكا أو نتفرج على لوحات ناجي وصبري ومحمود سعيد، كانت لمسة من الإيد مجرد لمسه.. تغيبنا عن الوجدان،  وكانت نظرة من العين تسهرنا للفجر، وكانت رعشة الكلمة الحلوة على الشفايف تبكينا.

تصوري احنا كنا بنخاف من القرب أكتر ما بنخاف من البعد، وفي البعد طبعاً نرجع نِحنّ للقرب تاني، كانت الأشياء البسيطة جداً في الحياة بيبقا ليها قيمة كبيرة قوي، وشوشة الريح في الشجر، نور القمر في المكان حوالينا، كل حاجة كان بيبقى لها معنى وطعم ومتعة، أغاني أم كلثوم كنا نقعد نسمعها بالساعات منتكلمش خالص، وفي نفس الوقت بنقول كل حاجة، عشان كده الحب كان بيفضل وبيعيش، مهما فصلت بين المحبين بلاد وفرقت بينهم جبال حتى، أنا حبي لطنطك نعمات استمر أكتر من 30 سنة، رغم إننا افترقنا وهي راحت اتجوزت واحد تاني، لكن أول لقاء ما بينا بعد السنين دي كلها كان له فرحة أول مرة اعترفنا لبعض فيها.
– حضرتك يا عمي بتقول كلام عمري في حياتي ما سمعت أحلى منه”.

كان أبو العلا البشري مثل “دون كيشوت” معاصر حط رحاله في مصر، رجلا من زمن آخر جاء لـ”يعدل المايلة” كما يقولون، لم يستوعب بعد ما فعله الزمن بالقيم النبيلة التي صارت شعارات بالية لا يلتفت إليها أحد، لكن “أبو العلا” لم يستسلم كان يتدخل بسذاجة وحشرية أحيانا لكن بدافع من قلب صادق، لكن ولأننا صرنا في عصر لا يرحم، المسلسل عرض في منتصف الثمانينيات، ولا يأبه للضعيف فإن مثاليته كثيرا ما كانت تنقلب ضده، ربما لن نكون قادرين أن نكون مثل “أبو العلا البشري” لكننا لن نمنع أنفسنا من أن نحبه ونحترمه ونحترم فيه كل القيم النبيلة التي افتقدناها.

“ما تمنعوش الصادقين من صدقهم.. ولا تحرموش العاشقين من عشقهم.. وإذا كنا مش قادرين نكون زيهم.. نتأمل الأحوال، وندرس الأفعال.. يمكن إذا صدقنا نمشى في صفهم”.

وللحديث بقية..
 

ربما يعجبك أيضا