العز بن عبدالسلام.. قبر سلطان العلماء خارج التاريخ

هدى اسماعيل

كتب – عاطف عبداللطيف وهدى إسماعيل

الاعتداء على التاريخ ليس فقط بإهماله أو تعمد ضياع معالمه، ولكن يكمن في الإعراض عن الاعتراف به، وداخل مقابر البساتين بمنطقة مصر القديمة، وفي أعماق شوارع المقابر العتيقة، يقع مقام قاضي القضاة وشيخ الإسلام الإمام “العز بن عبدالسلام”، الذي رفضت وزارة الآثار المصرية ضمه لتبقى أركانه ومعالمه مطموسة ومشوهة، والتي تعود إلى مئات السنين حاوية بين ترابها قبر أحد أعظم علماء الإسلام عبر التاريخ.

تمر السنون وتسوء أحوال التحف الأثرية وتتدهور أوضاعها وتضيع قيم الجمال، فأصبح الكثير من آثار مصر محاصرة بالإهمال والتنكر لقيمتها وتاريخها من جهة والقمامة والاعتداءات من مدمني المخدرات والخارجين عن القانون من جانب آخر. وكغيره من الأماكن والأضرحة والتحف الأثرية الشاهدة على تاريخ مصر عبر الأزمان والأجيال، يبقى ضريح قاضي الإسلام “العز بن عبدالسلام”  في مقابر البساتين وتحديدًا بالقرب من جبانة التونسي، مجرد سور تهدم على قبر صاحبه دون أن يسجل كأثر!

والحجة أنه فقير من الناحيتين المعمارية والأثرية، ولا توجد به أي عناصر إنشائية مميزة، وأنه ليس إلا تركيبة معمارية يحيط بها سور، ويفتقر إلى ما يجعله مؤهلًا للتسجيل كأثر إسلامي، ونسي أصحاب هذه الحجج القيمة التايخية لـ”العز بن عبدالسلام” ومواقفه في الحق ونصرته للدين، ومع الوقت ستطمس معالمه، ولن يعرف أحد من الأجيال القادمة أين قاضي الإسلام.

سلطان العلماء

هو أبومحمد عز الدين عبدالعزيز بن عبدالسلام السُّلَمي، وُلد في دمشق عام 577هـ؛ ونشأ في كنف أسرة متدينة فقيرة. تلقى العلم في سنّ متأخرة نسبياً على يد كبار علماء عصره، فبرع في الفقه والأصول والتفسير واللغة العربية، حتى انتهت إليه رئاسة المذهب الشافعي، وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصد بالفتاوى فاستحق لقب “سلطان العلماء” كما أطلقه عليه تلميذه “ابن دقيق العيد”.

ظل “ابن عبدالسلام” في الشام يدرس ويفتي ويصنف المؤلفات المهمة، كما تولى العديد من المناصب في القضاء والخطابة بمساجد دمشق، إلى أن هاجر إلى القاهرة وهو في الـ60 من عمره، وقد سبقته شهرته العلمية، فاستقبله سلطان مصر “الصالح نجم الدين أيوب” وأكرمه وولاه الخطابة في جامع عمرو بن العاص أكبر وأهم مساجد مصر كما قلّده منصب قاضي القضاة.

التف حوله علماء مصر وعرفوا قدره، وبالغوا في احترامه؛ فامتنع عالم مصر الجليل الشيخ “زكي الدين المنذري” عن الإفتاء بحضوره احترامًا وتقديراً لعلمه، وقال فيه السيوطي: “ثم كان في آخر عمره لا يتعبّد بالمذهب، بل اتّسَع نطاقه، وأفتى بما أدّى إليه اجتهاده” أي أنه لم يعد متقيدًا بمذهبه الشافعي، بل قد يفتي بمقتضى اجتهاده.

بائع الأمراء

للإمام العز بن عبدالسلام الكثير من المواقف الجريئة في الحق، ومن أشهرها والتي اصطدم فيها مع الملك الصالح أيوب نفسه، أنه لما عاش في مصر اكتشف أن الولايات العامة والإمارة والمناصب الكبرى كلها للمماليك؛ وهم في حكم الرقيق، ولا يجوز لهم الولاية على الأحرار؛ فأصدر فتواه بعدم جواز ولايتهم لأنهم من العبيد ، ويتعارض في نظره مع الشرع الإسلامي. فامتنع أن يمضي لهم بيعًا أو شراء، فقدموا شكوى إلى الملك الصالح الذي لم تعجبه بدوره فتوى العزّ، فأمره أن يَعدِل عن فتواه، فلم يأتمر بأمره، بل طلب من الملك ألا يتدخل في القضاء؛ إذ هو ليس من السلطان. ولما لمس العز بن عبدالسلام إعراضًا عن كلامه، عزل نفسه من القضاء.

ورفض المصريون ذلك؛ فخرج خلفه آلاف المصريين علماء وعامة وتجار، ولما وصلت الأخبار إلى “نجم الدين أيوب” أسرع إلى الشيخ “العز” واسترضاه، فما قبل إلا أن تنفذ فتواه، وقال له: إن أردت أن يتولى هؤلاء الأمراء مناصبهم فلابد أن يباعوا أولًا، ثم يعتقهم الذي يشتريهم، ولما كان ثمن هؤلاء الأمراء قد دفع قبل ذلك من بيت مال المسلمين، فلابد أن يرد الثمن إلى بيت مال المسلمين.

وافق الملك الصالح أيوب، وتولى “العزّ بن عبدالسلام” عملية بيع الأمراء حتى لا يحدث نوعًا من التلاعب، وبدأ يعرض الأمراء واحدًا بعد الآخر في مزاد، ويغالي في ثمنهم، ودخل الشعب في المزاد، حتى إذا ارتفع السعر جدًا، دفعه الملك من ماله الخاص واشترى الأمير ثم يعتقه بعد ذلك، ووضع المال في بيت مال المسلمين، وهكذا بيع كل الأمراء الذين يتولون أمور الوزارة والإمارة والجيش وغيرها، ومن يومها والشيخ العز بن عبدالسلام يعرف بـ”بائع الأمراء”.

وفي موقف آخر، وعندما وصل “قطز” إلى مصر، وبدأ خطر التتار في الاقتراب، كان الأمر يتطلب الكثير من الأموال، فقرر حينها المظفر قطز أن يفرض ضرائب جديدة على المصريين. وحينها وقف “العز” في وجهه وطالبه ألا يأخذ أموالًا من العامة إلا بعد فراغ خزائن بيت المال، وبعد أن يخرج الأمراء وكبار التجار من أموالهم وذهبهم المقادير التي تتناسب مع غناهم حتى يتساوى الجميع في الإنفاق على الجيش، ولم يجد قطز مفرًا من تنفيذ كلام الإمام بن عبدالسلام.

بقايا ضريح

يتكون الضريح من مربع كبير طول ضلعه 15 مترًا، ومن المرجح أنه كان مغطى بقبة مرتفعة، يوجد في حائط القبة 5 محاريب أكبرها يتوسط الحائط واثنان على كل جانب وفي وسط الضريح مقبرة عليها بناء مرتفع، لعله كان مغطى بتابوت خشبي، والآن تهدمت معظم جدرانه وأصبح القبر يعلوه الكثير من الحجارة الثقيلة والأخشاب ومخلفات تعاطي المخدرات.

وفاته

بعد أن قضى عمره في خدمة الدين والعلم والأمة الإسلامية، أغمض الشيخ “العز بن عبدالسلام” عينيه، وقد انتهت حياته الدنيا، فى العاشر من جمادى سنة 660هـ، ودفن بسفح جبل المقطم. وكان يومًا مشهودًا ودّعه شعب مصر بإكبار وإجلال، وعندما مرت جنازته تحت أسوار القلعة ورآها الملك الظاهر بيبرس قال: “اليوم استقر أمري في الملك”.

ربما يعجبك أيضا