رحلة كسوة الكعبة.. “مصطبة المحمل” تحكي بحنين عن أيام ذهبت ولم تعد

هدى اسماعيل

عاطف عبداللطيف- هدى إسماعيل

عقد في ديوان محافظة مصر احتفال جليل دعي إليه العلماء والأمراء وأرباب الطرق وكثير من الوجهاء والأعيان وانتظم الموكب مركباً من فرق العساكر الخيالة والمشاة والمدفعية يتقدمهم رياض باشا نائباً عن الحضرة الخديوية، هكذا كتب “عبدالله النديم” في مجلة “الأستاذ” في مايو 1893، عن انطلاق المحمل وكسوة الكعبة من مصر.

كانت هذه الكلمات وصفا دقيقا للواقع أما الآن فإذا أردت أن تتعرف على الوضع الحالي فعليك أن تذهب إلى منطقة القلعة، وتحديدا تحت أسوار القلعة هناك جزء ودور كان يقوم به عمال مصر وملوكها “كسوة الكعبة”.

الواجهة محترقة

غرف بلا سقف، قمامة وعنكبوت وأحجار متهدمة في أرجاء المكان، أما الواجهة فمحترقة بالكامل، بالإضافة إلى أعمدة خشبية محترقة خارجة من سقف المبنى الذي وقع معظمه، كابلات كهربائية محترقة تخرج منها مجموعة من الأسلاك المتفحمة، وبقايا سور لا يتعدى الـ50 سم، بجانبه عمود إنارة محترق ومجموعة من الصخور البالية ومئذنة متهدمة لا يبقى منها سوى القاعدة.

أما في الجانب الشمالي للمبنى، فتوجد براميل حديدية بها أحجار وأعمدة حديدية، ومجموعة من الأحجار الملقاة، ويتكون البناء من الداخل من غرفة كبيرة لم يتبق منها سوى أجزاء من زخارف السقف التي نقشت بطريقة على الطراز الحديث، من الواضح أنها كانت غرفة للاجتماعات في العصر الحديث، وغرفة أخرى متهدمة بالكامل ولا يوجد بها سقف.

كشك الخديوي

مرت مصطبة المحمل أو “كشك الخديوي” بعدة مراحل عبر التاريخ من العصور الوسطى وحتى عصرنا الحالي، فما بين التكريم والتشريف ومواكب الاحتفال بخروج المحمل حاملا كسوة الكعبة، في موكب عسكري ضخم، لمقر للاتحاد الاشتراكي، ثم مقر للحزب الوطني، لينتهي به الحال لبناء محترق زالت كل آثاره بعد أن دمرت النيران كل شيء.

حراس المحمل

تم بناء “كشك المحمل” في عام 1864، ويعرف بكشك الخديوي، أو مصطبة المحمل، وقد عرفت مصر هذا  التقليد منذ عهد الظاهر بيبرس، بل منذ عهد شجرة الدر، ولكن الظاهر بيبرس هو أول من أرسى الاحتفال بسفر المحمل من القاهرة إلى مكة، حيث كان يعرض كسوة الكعبة فى احتفالات شعبية في شوارع القاهرة قبل سفرها بيوم، بعدها أصبح المحمل والاحتفال به تقليداً يحرص عليه ملوك مصر وشعبها كل سنة في وقت خروجه لمكة المكرمة، وكذلك الاحتفال بعودته منها، وهي الاحتفالات التي كان يشارك فيها الجيش قبل الثورة، وحراس المحمل والمرافقون له، وكان يطلق على قائد مسيرة المحمل أمير الحج وكان غالبا من الباشوات والأمراء.

وكان يقع مصنع الكسوة المشرفة في حي “الخرنفش” أمام مسجد القاضي عبدالباسط ، وكان مكان هذا المشغل ورشة خميس العدس، كان قد أنشأها محمد علي باشا لعمل آلات أصولية مثل السندانات والمخارط الحديد والقواديم والمناشير وأدوات الأنوال لصناعة غزل ونسيج الحرير والقطن.

وبعد الانتهاء من التصنيع يُعلَم الحاكم في مصر لبدء تجهيزات الخروج بالمحمل، وخلال مرحلة التصنيع كان يصل إلى مصر القادمون من شمال أفريقيا لأداء فريضة الحج، فكانوا يخرجون مع زفة المحمل برحلاتهم في موكب مهيب، وكان الحاكم يعين أمير الحج، وهو غالباً من الشرطة، وقد يعادلها حاليًا وزير الداخلية للإشراف على حماية الموكب.

واستمرت مصر في إرسال موكب المحمل، حتى توقف هذا التقليد نهائيا عام 1962 في أيام جمال عبدالناصر.

دار الخرنفش

كانت تكلفة كسوة الكعبة مرتفعة للغاية، لذا أمر السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون حاكم مصر بوقف خراج قريتين بالقليوبية هي قرى باسوس وأبوالغيط، لهذا الشأن، ولكن العائد لم يعد يكفي بعده بسنوات طويلة، لكن السلطان سليمان القانوني سلطان الدولة العثمانية التي انتزعت مصر من المماليك، أمر في أثناء زيارته لمصر بوقف خراج 7 قرى أخرى إلى جانب القريتين ومع ذلك لم يكف العائد فتم رفع الضرائب على أهالي تلك القرى، وفي عهد الوالي محمد علي باشا أمر أن تخرج نفقة تصنيع كسوة الكعبة من خزينة الدولة التي آلت إليها كل الأوقاف وتأسست لهذا الشأن “دار الخرنفش” في حي باب الشعرية في القاهرة لتصنيع الكسوة.

احتفالية رسمية وشعبية

في الساعة التاسعة صباحا، قبل أن يحين الموعد بنحو الساعة، وفي ميدان القلعة تجاه (مصطبة المحمل) يصطف الجنود حاملين أسلحتهم، ويجلس العلماء في الميمنة، خلفهم المندوب العثماني والنظار والأمراء والأميرات وكبار الأعيان والتجار، وفي الميسرة يجلس كبار موظفي الديوان الخديوي، خلفهم قادة الجيش والجميع بملابس التشريفة في انتظار (الجناب العالي) الذي يحضر في عربة تجرها أربعة جياد، وبجواره رئيس النظار، ثم عربات كبار رجال المعية، يحيط بالجميع 148 من فرسان الحرس الخديوي، وتؤدى للخديوي مراسم الاستقبال الرسمي بإطلاق 21 طلقة مدفعية ثم السلام الخديوي، وبعد أن يحيي الجميع يجلس في مكانه المخصص وبعدها يأخذ “مأمور تشغيل الكسوة” بزمام جمل المحمل ويدور به ثلاث مرات ثم يتوجه نحو الخديوي الذي ينزل إلى أول درجة من المصطبة، فيتقدم إليه مأمور الكسوة بكيس “مفتاح الكعبة” مبسوطا على كفيه، فيتناوله سموه ويقبله ثم يتلو (دعاء المحمل) وتقدم الهدايا إلى أربابها.

بعد انتهاء موسم الحج يعود المحمل حاملا الكسوة القديمة للكعبة بعد إبدالها بالجديدة وتقطع إلى قطع وتوزع على النبلاء والأمراء، وما زالت هذه القطع موجودة في متحف كسوة الكعبة، وبعضها في قبور العائلة الملكية في مصر حيث زينوا بها أضرحتهم كنوع من التبرك.

الكسوة

الكسوة يبلغ ارتفاعها 14 مترا، ويحليها في الثلث الأعلى منها حزام يعرف بحزام الكعبة المطرز بالأسلاك المصنوعة من الفضة المحلاة بالذهب ونقش عليها، “لا إله إلا الله محمد رسول الله” و”الله جل جلاله” و”سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم” و”يا حنان يا منان” وتحتها مباشرة سورة الإخلاص داخل مربعات مطرزة بالطريقة نفسها.. وتشمل “الكسوة” العتبة والطراز والقائم الصغير والقائم الكبير والوصلة، ثم كسوة مقام إبراهيم عليه السلام، وستارة باب مقصورة إبراهيم عليه السلام، وستارة باب التوبة، وستارة باب منبر الحرم المكي، ثم كيس مفتاح الكعبة المشرفة، بالإضافة إلى كسوة الحجرة النبوية الشريفة وستارة المنبر النبوي.

تحول “مصطبة المحمل” إلى مقر للاتحاد الاشتراكي، ثم ورثه عنه الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يرأسه الرئيس السابق محمد حسني مبارك، ثم احترق المقر بالكامل إبان ثورة 25 يناير 2011، ليظل إلى الآن شاهدا على بقايا تاريخ لم نستطيع الحفاظ عليه.

ربما يعجبك أيضا