في ذكرى ميلاده.. نساء “محمد خان”: “كترة الزغاريد تعلم الفرح”

أماني ربيع

أماني ربيع

كثيرون يرون في أفلام محمد خان توثيقا أمينا لشوارع مصر وأماكنها بعين سينمائية مرهفة تلتقط أدق التفاصيل، لكن كما يقول الناقد الفني محمود عبدالشكور: “أفلامه كانت عن الإنسان في المكان، لا تحكي حواديت بل ترصد حالات وترسم ملامح شخصيات جعلتها الظروف على ما هي عليه”.

واللافت في أفلام “خان” هو تلك الصورة الجميلة التي تبرز بها المرأة في أعماله، والشخصيات النسائية في أعماله ليست خارقة الجمال أو قوية بالمفهوم الجسدي أو غنية، إنها إنسان من لحم ودم، لقد ابتعد بالبطولة النسائية عن فخ “النجمة” اللامعة بماكياج صارخ وملابس أحدث ماركة، قدم المرأة البسيطة الأم والأخت والحبيبة التي يمكن أن نصادفها في الشارع.

نساء “خان” لوهلة، قد نراهن مقهورات، لكنهن يسعين لتغيير الواقع يحاولن الصمود في وجه المدينة القاسي، يكمن سحر الأنثى لديه في بساطتها وعفويتها، ورغم الضعف الظاهر فهي قوية جدا بصرف النظر عن تعليمها ومكانتها الاجتماعية.

وفيما يلي نستعرض بعض نماذج المرأة في أفلام محمد خان:

“خرج ولم يعد”.. حواء والحمار

في هذا الفيلم تخلت الجميلة ليلى علوي عن الماكياج تماما، وبدت طبيعية وساحرة، لأول مرة تؤدي دور فلاحة غير متعلمة، ولكنها تمتلك ذكاء المصريات البسيطات الفطري، نجح منطقها البسيط في إعادة الحياة إلى جسد الشاب عطية ابن المدينة العاجز عن اتخاذ القرار.

الفيلم أصلا سيمفونية بصرية عن الجمال في صورته البكر عن البراح والمتسع الذي هتكته المدينة بتعليب البشر في شقق سكنية، جردت المصريين من دفء كلمة بيت، وأصبحت “شقة” مجرد ركن يعيش فيه الإنسان أيامه بصورة ميكانيكية، الظروف تدفع عطية للذهاب إلى الريف ليقع تحت وطأة أرستقراطي مضياف يقع تحت هيمنة كرمه، ويرى الحياة بمنظور جديد.

في حوار طريف ضمن الفيلم تطالب الأم الابنة “خوخة” بارتداء فستان أنيق لتلفت أنظار عطية، الفتاة لا تفهم وتجري هذه المحادثة الكوميدية:

– عايزاني ألبس فستان جديد عشان أحمي الحمار!
– حمار إيه دا يا بنتي اللي مهتمية بيه وسايبة الحمار التاني اللي قاعد في البيت.
– هو احنا عندنا حمار تاني في البيت!
– أيوة.. عطية.
يبدو الوصف لائقا بعطية الذي يعيش أسيرا لأمنية أبيه وفي أحد المشاهد تتضح أبعاد هذه “الحمورية” يجلس مع خوخة التي تبدو مثل “حواء” معاصرة، وسط جنينة الموز البديعة وكأنها قطعة من الجنة يتناقشان حول حياته التي يؤجلها ليصبح بعد عشرين عاما مديرا عاما، فيصدر الحمار الذي يقف بينهما”نهيقا” له دلالة.
– دلوقتي بس عرفت آدم كان بيحس بـ إيه وهو عايش في الجنة
– بس إوعى تعمل زيه وتسيب الجنة
– المفروض الأبناء ما يكرروش أخطاء الآباء.. معقول هتبقى الجنة بين إيديا وأسيبها
– يعني نويت تفضل هنا على طول؟
– يا ريت يا خوخة .. يا ريت
– وإيه اللي منعك؟
– ألف حاجة وحاجة
– طب قولي حاجة واحدة بس
– وظيفتي مثلا
– بقى خايف تضيع منك وظيفة صغيرة و مش خايف تضيع منك الجنة بحالها!
– أنا صحيح موظف صغير دلوقت.. بس بعد 20 سنة هبقى مدير عام
“صوت نهيق الحمار”
ههههههه موت يا حمار

وفي النهاية تنتصر “حواء” بمنطقها البسيط على عطية “فيعترف: أنا حبيت كل حاجة إنتِ بتحبيها، حبيت أبوكي، وحبيت أمك، حتي جاموستك حبيتها.

وعندما تعرف بأمر خطيبته وتنهره، يرجوها: خيرية ماتطردنيش من الجنة.

“موعد على العشاء”.. الموت اختيارا

تبدو البطلة “نجوى” كما لو كانت هاربة من فيلم قديم، بفساتينها البسيطة، ووجهها الطبيعي دون مساحيق أو إضافات صنعها مبضع جراح تجميل، فتاة حالمة تهرب من مشروع زواج تقليدي، بحثا عن مدرستها التي علمتها معنى الحب، تبدأ رحلتها الخاصة لاكتشاف نفسها واكتشاف الحب التقليدي.

تبدو الفتاة خجولة وبسيطة في مواجة الشاب المتحرر الذي تعود على الفتيات اللاتي تعاملنه بندية، تجمعهما الصدفة أكثر من مرة، أو تجمعهما تهاني الذي يقطن الشاب في شقتها، وفي حوار نتعرف فيه على معنى قوة المرأة في نظر “خان” تجري هذه المحادثة بينهما:

– كان لِيا واحدة صاحبتي كانت دايما تقولي إن الرجالة يعني بيحبوا الست اللي تحسسهم إنها قوية قوي ومدردحة قوي وواثقة من نفسها قوي وجميلة قوي
– سوبر وومن قوي يعني!
– بس أنا لا قوية قوي ولا مدردحة قوي ولا جميلة قوي
– إنتِ مش جميلة!
– كانوا دايماً بيقولوا إنها مش بيضا وحلوة زي أمها بس دمها خفيف
– هُم مين دول اللي بيقولوا؟
– يعني جيرانا وقرايبنا
– ما فيش ولا راجل قبل كدة قالك إنك جميلة
– لا
– إسمحيلي أقولك مع احترامي لكل الرجالة اللي عرفتيهم في حياتك، إنهم ما بيفهموش، مش لازم البنت تخُش في ماتش ملاكمة مع اللي بتحبه علشان تثبت إنها قوية، يعني إنتِ مثلاً سبتي كل حاجة وجيتي هنا في مكان ما تعرفيش فيه أي حاجة علشان تطمني على واحدة صاحبتك دي مش قوة؟! وبعدين كمان مش شرط البنت تمشي وتقول أنا جميلة ومحصلتش عشان تثبت إنها عندها ثقة في نفسها! كفاية إنها تحس إنها من جواها جميلة عشان تحسس أي راجل إنها أجمل بنت في الدنيا.

كان الفيلم إعادة اكتشاف لغادة عادل كممثلة قدمها في شكل جديد أظهر قدراتها، كما أظهر من خلاله قوة المرأة على تقرير مصيرها وحياتها رغم ضعفها ظاهريا.

“فتاة المصنع”.. كتر الزغاريط تعلم الفرح

نرى مجموعة من الفتيات تكمن قوتهن في الضحكة والأحلام العريضة رغم بساطتها، “شلة ” محرضة على البهجة، يقتتنصن أي فرصة ليزغردن ويرقصن لعل البهجة التي يبحثن عنها تقرر زيارتهم.

تبرز بينهم “هيام” لجرأتها وقرارها في ملاحقة حبيبها المهندس بالمصنع الذي تعمل به، سذاجتها أوحت لها بأن قوة حبها قادرة على إذابة الجليد في قلب من تحب، لذا  تلجأ لإرضائه بالطريقة الوحيدة التي تعرفها بأن أقصر طريق لقلب الرجل هي معدته، فتعد له الطعام، وتهتم به وتعتني به في مرضه.

يصدمها الرفض فيقهرها الحزن وتمضي، وتتهم بخطيئة لم ترتكبها يحاول الأهل كسرها وتجريدها من شعرها الطويل رمز أنوثتها، لكن هذه التجربة المريرة تزيدها قوة وترد إليها إيمانها بالحباة والحب، لا تدافع الفتاة عن نفسها تستكين ليس عن ضعف وإنما عن إيمان بأنه لن تبرر خطأ لم ترتكبه، ويوم زواج المهندس تذهب بشعرها القصير الذي ترى أنه أنار وجهها وزاده جمالا رقصت بكل ما فيها من جمال وحرية رقصت لتحتل المشهد كاملا ويبدو كل شيء حولها ضئيلا، رقصت على قلبها المذبوح، رقصت وقد تخلصت من الإحساس بالظلم.

لقد عبرت هيام في رقصتها الأخيرة عن كل ما بداخلها دون حاجة إلى كلام، إنها رقصة تحتفي بالحياة وجمالها، تحتفي بالأمل.

كان غريبا أن يُقدم فيلما بطلته خادمة ويدور في عالم لا يبدو للوهلة الأولى مبشرا بقصة ممتعة، لكن “خان” يدهشك كيف ينحت من تفاصيل بسيطة تحفة فنية، والمدهش هو كيف أقنع أيقونة “الرومانسية” نجلاء فتحي بالظهور كخادمة والتخلي عن صورتها الرومانسية لتقديم دور خادمة من حي شعبي، لكن رهانه عليها نجح.

خادمتان تعيشان واقعا مرا، كاميليا أرملة تعيسة الحظ والأخرى مطلقة بلا حظ أيضا، تقعان في فخ الاستغلال واحد ييستغلها شاب “أرزقي” بدافع الحب، والثانية يستغلها الأخ المتزوج تصرف على أسرته في مقابل سقف تعيش تحته.

إنهما تصارعان الحياة في أقسى صورها، فقر وقهر كان هذا المزيج قادرا على صنع صورة كابوسية وكئيبة، لكن الفتاتين راضيتين بأقل القليل رغم المآسي وقهر الحياة يحلمان ولا يتركان الأمل، وتبدو جملة “مسيرها تروق وتحلى” على لسان “عيد” هي فلسفة البطلات الفيلم اللاتي يجدن المتعة والسعادة في أبسط الأمور.

واحدة تحلم بأن تكون “ست بيت”، والأخرى تحلم بالاستقلال والحياة في منزل خاص بها تبدو علاقة الصداقة بين الفتاتين مصدرا للقوة، إنهما بلا سند تقريبا، الرجال في حياتهما ظل بلا معنى أو دور، “كاميليا” هي كتف الذي تستند إليه “هند”  واليد التي تحميها من سذاجتها، و”هند” هي الدافع الذي يجعل”كاميليا متشبسة بالأمل والحياة، يخذل الحب هند مع رجل اعتاد النصب والسرقة.

تمثل كاميليا قوة المرأة وقدرتها على الاستمرار رغما لمصاعب تقرر التحرر من سطوة الخدمة في البيوت ومهانتها، وفتح شمروعها الخاص لبيع الخضار، وعندما يعاند الحظ الفتاتين ويجدن أنفسهن مجددا بلا مال على شاطئ البحر ينسين المأساة ويقررن غسل حزنهن وسط أمواج البحر، لقد وجدن أحلام وهذا يكفي مؤقتا.

“في شقة مصر الجديدة”.. أنا قلبي دليلي

يحكي رفيق عمر “خان” مدير التصوير القدير سعيد شيمي عن فكرة هذا الفيلم: كنت جالسا معه في منزله، كان يقرأ مجلة وقص أحد الأخبار منها فسألته هل الخبر عنك فقال: لا، وحكى لي أنه عن امرأة كانت على خلاف مع زوجها فعزمته على العشاء وسمّمت الطعام وأكلت معه ومات الاثنان معا، سألته: هل ستخرج فيلما عن اثنين سمموا بعض، قال: لا لكن الموضوع شدني، وأخبرني أنه لن يصنع فيلما عن هذا الموضوع، لكن الحقيقة أن الفكرة شدته وعمل الفيلم بالفعل.

نوال فتاة رقيقة رومانسية تزوجت من رجل تعامل معها وكأنها شيء يمتلكه، يخضع له بلا إرادة أو روح، وخلال هذا الزواج البائس تنسى نوال ضحكتها التي تموت في معية رجل مادي يقهرها، تظل ملامحها بائسة كما لو فرغت توها من البكاء، حتى تقابل “شكري” مصفف الشعر الذي يلتقط بعينيه وبقلبه آلامها.

تجذبه الفتاة الحزينة فيرسمها بريشته ضاحكة وفي لحظة مكاشفة بسيارتها يخبرها عن قصة تخرجه من كلية الفنون الجميلة، ويهديها لوحة رسمها لها من ذاكرته، تندهش فقد رسمها ضاحكة، تسأله: بس أنت مشفتنيش أبدا وأنا بضحك، ليسألها بدوره هو أنتِ مكنتيش بتضحكي ليه! ما تضحكي، فتجيبه أضحك على إيه!، فيقول لها : إن شالله عليا، لتعود الابتسامة إلى قلبها من جديد.

في ذات المشهد يحرر “شكري” نوال من جمودها بأن يعبث في تصفيفة شعرها بلمسات بسيطة يحولها من عجوز جامدة إلى فتاة تنبض بالحياة.

بدأت نوال تعرف كيف تكون طرفا في قصة حب أن تكون فاعلا وليس مفعولا به، تصنع وجبة لذيذة تستيقظ على صوت من تحب ونظراته، لكن الزوج السابق كان لهذه السعادة بالمرصاد، لا يقبل لملكيته حتى لو حازت لقب سابقة أن تؤول لشخص آخر، وعندما يموت شكري تنتهي رغبة “نوال” في الحياة وتقرر أن تنتقم.

وفي المشهد الأخير من الفيلم عندما نراها تتحرك مثل آلة لتعد العشاء الذي يبدو في ظاهره رومانسيا تكمن قوتها في هدوئها بعد أن سممت “المسقعة” ليكون عشاء أخيرا يجمعها بالعدو الذي سلبها كل شيء، تبوح نوال في اعتراف أخير قبل النهاية بمشاعرها:

 – بعد ما سبتلي ورقة الطلاق مصدقتش نفسي، مصدقتش إني بقيت حرة وإني هقدر أعيش الحياة اللي أنا أختارها، زي ما يكون انكتب عليا إني أفضل طول العمر أسيرة ليك، حتى لما حبيت شكري واتجوزته كنت خايفة منك، ولغاية دلوقتي.
 – ياااااه هو أنا بخوف للدرجة دي.
 – بعد شكري ما اتقتل عرفت إني ولا حاجة، ولا أنا ولا أنت نستحق نعيش يا عزت.
 – هو الأكل ده في حاجة.
  – أيوة فيه سم.

“أحلام هند وكاميليا”.. مسيرها تروق وتحلى

ربما يعجبك أيضا