لا شمس في منزلنا ولا بذور يمكن أن تزهر!

شيرين صبحي

رؤية – شيرين صبحي

في روايته البديعة “آنا كارنينا”، يصور الكاتب الروسي الشهير ليو تولستوي، الموت أكثر من مرة؛ بداية من انتحار أحد العمال في سكة القطار, مرورا بمشهد وفاة أخ ليفين “نيقولا” الذي مات بالسل، وصولا إلى مشهد انتحار آنا كارنينا، لتضع حدا لحياة قلقة متوترة.

تقف آنا كارينينا على سكة القطار، تتذكر نفسها وهي طفلة صغيرة تلهو وتلعب، فتبتسم ابتسامة حزينة وتصرخ من داخل أعماقها : “أين أنا؟ ماذا أفعل؟ لماذا؟ .. يا إله السماوات، اغفر لي كل شيء”.

في قصة “موت إيفان إيليتش”، يصور تولستوي معاناة أحد القضاة من أحد الأمراض, فنسمع صرخاته من شدة الألم والعذاب, وفي النهاية عندما يسترد إيمانه, يستقبل الموت بكل راحة وإيمان.

في قصة “موت موظف” للأديب الروسي أنطون تشيخوف، نشاهد الموظف إيفان ديمتريتش كريبكوف، يجلس في الأوبرا يشاهد “أجراس نورماندي”، كان يتفرج وقد اعتراه شعور بأنه يعتلي قمة العالم. ولكن فجأة يتقلص وجهه، وينحني إلى أمام ويعطس. ينظر حوله ليرى إذا كان قد أزعج أحدا بعطاسه، فيري الجنرال شبريتسالوف العجوز الجالس أمامه في الصف الأول يمسح قمة رأسه والجهة الخلفية من رقبته بقفازه، ويتمتم بشيء.

يعتذر كريبيكوف ويهمس في أذن الجنرال أن الأمر لم يكن مقصودا، فيرد الآخر: حسنا.

يطلب كريبيكوف أن يصفح عنه، فيطلب منه الجنرال أن يجلس لأنه لا يستطيع سماع الأوبرا. يرتبك كريبيكوف ويشعر بالقلق. ثم يستغل فترة الاستراحة ليكرر اعتذاره، فيعض الجنرال على شفته ويكرر أنه نسي ذلك.

لكن كريبيكوف يشعر بعدم اطمئنان، ويخشى أن يظن الجنرال أنه قصد البصق عليه. يخبر زوجته بالأمر فتقترح عليه أن يذهب إليه ويعتذر له.

فى اليوم التالي، يرتدي بدلته الجديدة ويشذب شعره ويذهب إلى الجنرال، لكن الآخير يطلب منه أن يكف عن الهراء لأنه يضيع وقته. يمتقع وجه كريبيكوف، ويعتقد أن الجنرال غاضب منه. فينتظر حتى ينتهي من عمله ويحاول مرة أخرى توضيح الأمر له، فيدفعه الجنرال جانبا ويسأله “هل تحاول أن تكون مضحكا”.

في الصباح التالي، يذهب إليه ليوضح الأمر، فيستشيط الجنرال غضبا ويطلب منه أن ينصرف، فيغمى على كريبيكوف من الفزع.. “شعر كريبيكوف بشيء ينهش أحشاءه. وبدون أن يرى شيئا أو يسمع شيئا، ترنح إلى الوراء نحو الباب ووصل الشارع وغادر هائما. دخل بيته بصورة آلية، ودون أن ينزع بدلته ارتمى على الأريكة و.. مات”.

موت قاس في “مرتفعات وذرينج”

في روايتها الشهيرة “مرتفعات وذرينج” المصنفة ضمن أفضل مائة رواية عالمية، تصف الكاتبة الإنجليزية إميلي برونتي، مشهد موت هيثكليف، الذي جاء موته غامضا ومخيفا وقاسيا، تماما كحياته، فنقرأ:

“كان مستر هيثكليف هناك، راقداً على ظهره.. والتقت عيناه بعيني فإذا فيهما نظرة ثاقبة ضاربة. فأجفلت.. وعندئذ بدا كأنه يبتسم.. ولم يكن في وسعي أن أحسبه ميتا، ولكن المطر كان يغمر وجهه وعنقه، وكانت أغطية الفراش تقطر ماء، وكان هو جامدا بلا حراك!.. وكان مصراع النافذة والهواء يطوح هنا وهناك، قد كشط جلد إحدى يديه، وكانت مستقرة على إفريز النافذة، ولكني لم أر أثراً للدماء حول الجلد الممزق، فلما لمسته بأصابعي، لم يعد ثمة مجال للشك.. كان ميتًا، متيبسًا!

ففتحت مصراعي النافذة وثبتهما، ورحت أمشط شعره الأسود الطويل إلى الخلف، لأزيحه عن جبهته.. ثم حاولت أن أغمض عينيه لأطفئ – إن استطعت – تلك النظرة الثاقبة المخيفة التي تنم عن الرضى والابتهاج، وكأنها تنبض بالحياة، قبل أن يراها أحد غيري.. ولكنها لم تلن تحت أصابعي ولم تستجب لي، بل كانت تبدو كأنما تهزأ بمحاولاتي! بل إن شفتيه المنفرجتين، وأسنانه الحادة البيضاء كانت كأنما تهزأ بي هي الأخرى.. وعندئذ تملكتني نوبة أخرى من الخور والجزع، فصحت استنجد بجوزيف..

وصعد جوزيف الدرج في جلبة وضوضاء، وهو يجر قدميه جرا.. ولكنه رفض في إصرار أن يكون له به شأن أو يمد إليه يدا، وصاح:
– لقد خطف الشيطان روحه، فليتول أمر جيفته أيضا! فما يعنيني ذلك في شيء. أف! انه يبدو شريرا حتى في موته”..!

لقد سقطت على الأرض

تعتبر رواية “البؤساء” للكاتب فكتور هوجو من أشهر روايات القرن التاسع عشر، ينتقد خلالها الظلم الاجتماعي في فرنسا بين سقوط نابليون عام 1815 والثورة الفاشلة ضد الملك لويس فيليب في 1832.

تصف الرواية بشكل بديع لحظة مصرع الطفل غافروش، الثائر الصغير الذي يغني في ساحة الحرب. فنقرأ: “ونهض منتصباً على قدميه وقد عبثت الريح بشعره, واضعا يديه على خاصرتيه مسددا بصره نحو رجال الحرس الوطني المطلقين النار, وراح يغني:

إن المرء ليكون بشعاً في ناتير,
وتلك خطيئة فولير,
وأحمق في باليسو,
وتلك خطيئة روسو.

ثم تناول سلته ووضع فيها الرصاصات التي سقطت منه من غير أن يضيع أياً منها, وتقدم نحو وابل من الرصاص وشرع يفرغ صندوق لرصاص آخر. وهناك أخطأته قذيفة رابعة أيضا, وما كادت. وغنى غافروش:

أنا لست كاتباً عدلاً
وتلك خطيئة فولتير
أنا عصفور صغير
وتلك خطيئة روسو

ولم توفق قذيفة خامسة إلى أكثر من انتزاع دور ثالث من غافروش, وراح يغني:

البهجة شيمتي
وتلك خطيئة فولتير
والبؤس جهاز عرسي
وتلك خطيئة روسو”..
واستمر على ذلك النحو فترة ما.

كان المشهد مرعباً وفاتناً. كان غافروش وقد صُوب إليه الرصاص يسخر من الرصاص, لقد بدأ وكأنه مبتهج جداً, كان هو السنونو يضرب الجنود القناصه بمنقاره, ولقد أجاب على كل إطلاقة رصاص بدور من أدوار الغناء. وسددوا إليه النار على نحو موصول ولكنهم أخطأوه دائماً. وضحك الجند ورجال الحرس الوطني وهم يصوبون الرصاص إليه. لقد انطرح على الأرض, ثم نهض, واختبأ عند زاوية باب, ثم قفز, واختفى, وأجال على طلقات النار بالسخرية, ونهب في نفس الوقت الرصاصات, وأفرغ صناديق الرصاص وملأ سلته, وأتبعه المتمردون بعيونهم وقد تقطعت أنفاسهم قلقاً. كان المتراس يرتجف , وكان هو يغني.

لكن رصاصة غادرة أصابت الطفل، وأطلق المتراس كله صيحة. لم يقع غافروش إلا لينهض من جديد, لكنه ظل جالسا وقد جرى على وجهه خط من الدم طويل, ورفع ذراعيه في الهواء ونظر إلى الناحية التي أقبلت منها الرصاصة, وبدأ يغني:

لقد سقطت على الأرض
هذه خطيئة فولتير
وأنفي في الساقية
هذه خطيئة ….

ولم يكمل. لقد حالت بينه وبين ذلك قذيفة ثانية من القناص نفسه. وهذه المرة خر على الرصيف مكباً على وجهه, ولم يتحرك بعدُ قط. كانت تلك الروح العظيمة قد فاضت”.

“تحفة” إميل زولا

في رواية “التحفة”، يحكي إميل زولا، سيرة الرسام كلود غريب الأطوار، الذي يلتقي منتصف الليل بفتاة وحيدة، ترافقه إلى مرسمه، وفي الصباح يكتشف جمالها حين تتساقط على جسدها أشعّة الشمس، فيقوم برسمها، ويشعر أنها امرأة مخلوقة للفن لا للحياة.

يحبان بعضهما ويتزوجان، ويقرران العيش في كوخ ريفي، لكن تبدأ سلسلة المصاعب حين تكتشف كريستين حملها، ويعاني كلود مزاجا سيئا، فيعودا إلى باريس. تؤمن كريستين بقدرات كلود الفنية، فتضحي بكل شيء من أجله، تهمل ولدها لإرضاء نزوات زوجها وبحثه عن تحقيق أسطورته الفنية.

يرى كلود كل شيء من خلال ريشته ولوحاته، يتلقى خبر رحيل ابنه، فيجري ناحية سريره، ويرى رأس الولد الميت الذي صارع الآلام، فيراها وكأنها لوحة فنية بديعة، فركض إلى ريشته وألوانه، وبدأ يظهر خطوط الألم والحزن على صفحتها البيضاء..!

بعد سنوات من الزواج، تصارحه كريستين بأن الحياة أهم من الفن. وتقوم بحرق لوحاته ثم تفقد الذاكرة..!

موت بائع متجول

في مسرحية “موت بائع متجول” للكاتب الأمريكي آرثر ميلر، نرى موت البطل البطيء، حيث تبدو ملامح الموت على وجهه حتى وهو يحاول أن يمرح ويتظاهر بالتفاؤل. ثم يأتي انتحاره في نهاية المسرحية، عندما نسمع صوت اصطدام سيارته، ويتم الإعلان عن رحيله من خلال سطر واحد “ومنذ قليل فقط كان يناقش أولاده ولم يبد عليه أي نية للانتحار”.

البطل ويلي لومان بائع متجول يعمل مندوب مبيعات في إحدى الشركات، ينتقل من بلد لآخر حتى يصل إلى الزبائن، وعندما لا يتمكن من بيع شيء، لا تدفع له الشركة. وبعدما أصبح عجوزا وغير قادر على جلب الزبائن، لم يعودوا بحاجة إليه وقاموا بطرده.

يظل لومان حتى آخر حياته يوهم نفسه وعائلته بأنه رجل ناجح، ويرفض مواجهة الحقيقة، ويعتقد أنه يكفي للرجل أن يكون محبوبا لتفتح أمامه مناجم الماس ويكون ناجحا.. إنه الحلم الأمريكي بتحقيق الثروة والنجاح، الذي استيقظ منه كثيرون على واقع قبيح استنزفهم دون مقابل.

كان لومان يتمنى مرة واحدة أن يملك شيئا قبل أن يصبح تالفا، فسيارته أصبحت خردة عندما انتهى من دفع أقساطها وكذلك الثلاجة، والبيت منذ 25 عاما لم ينته من دفع أقساطه وما يزال يحلم بأن يكون لديه بيت يملكه ويزرع حديقته بشتى البذور، رغم محاولة زوجته أن تجعله يعي حقيقة أن لا شمس في منزلهم ولا بذور يمكن أن تزهر..!

ربما يعجبك أيضا