لروحك السلام.. عن القنديل الصغير والأفكار التي لا تموت

هدى اسماعيل

هدى إسماعيل

العزيز غسّان.

لم أتخيّل يومًا أكتب فيه رسالة تبدأ بهذه العبارة: العزيز غسّان.

ربما لأنك، أيها العزيز غسان، رحلتَ عن هذا الوجود قبل ولادتي، أو لأننا ببساطة لم نعد نكتب الرسائل في ورق.

أتعلم؟ لطالما أدهشتني وجوه الشهداء المعلّقة في الزمن، جامدة لا تتغيّر.

وجهك لم يتغيّر مذ رأيته ذات يوم على جدار المخيم منذ أكثر من ثلاثين سنة”

هكذا قدّم المخرج “جاد أبي خليل” فيلمه الوثائقي التلفزيوني “ما تبقى لنا: رسائل كنفاني” موجهاً كلامه للكاتب والفنان الفلسطيني الشهيد “غسان كنفاني”.

يصف “أبي خليل” الفيلم بأنه رؤية شخصية وخاصة جداً أراد من خلالها إرسال تحية لكنفاني الكاتب؛ بعيداً عن كونه السياسي والصحفي، في محاولة لاكتشاف كيف يمكن أن يُقرأ غسان كنفاني اليوم، وكيف يمكن للفنانين أن يقدّموا أعمال غسان كنفاني برؤية فنية معاصرة.

الموت الطبيعي

جاء رثاء “محمود دوريش” له موجعا: “جميل أنت في الموت يا غسان، بلغ جمالك الذروة حين يئس الموت منك وانتحر، لقد انتحر الموت فيك، انفجر الموت فيك لأنك تحمله منذ أكثر من عشرين سنة ولا تسمح له بالولادة، اكتمل الآن بك، واكتملت به، ونحن حملناكم -أنت والوطن والموت- حملناكم في كيس ووضعناكم في جنازة رديئة الأناشيد، ولم نعرف من نرثي منكم، فالكل قابل للرثاء، وقد أسلمنا أنفسنا للموت الطبيعي، أيها الفلسطينيون احذروا الموت الطبيعي”.

ابن فلسطين 
ولد “غسان كنفاني” في عكا شمال فلسطين في 9 أبريل 1936، وانتقل إلى مدينة يافا للدراسة حتى احتلال فلسطين عام 1948، وعلى الرغم من صغر سنه فقد رفض سياسة الوصاية على الشعب الفلسطيني، واضطر للخروج من الوطن بعد المجازر الإسرائيلية التي ارتكبت في مدن وقرى فلسطين، فكانت لبنان أولى وجهاته وانتقل منها إلى سوريا والكويت، ليأخذ موقعه كصحفي وأديب لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، والتعريف بالقضية الفلسطينية، وهذا ما أبرزه كناشط في إحدى الفصائل اليسارية التي اعتمدت أسلوب الاشتباك المباشر مع العدو.

كتابة العرائض

وعن محاولات الشقيق الأكبر غازي ومعه الشقيق الذي يليه “غسان” الصمود أمام ويلات الحياة ومتطلبات النهوض القاسية، اقترح غازي الأخ الأكبر لغسان أن يمتهنوا كتابة العرائض، قائلا: يلزمنا طاولة وكرسي ومحبرة والقليل من الأوراق، ونقبض عشرة قروش عن كل عريضة نكتبها.

وافق “غسان”، دون أن يكون لديهم المكان والخبرة في كتابة العرائض وأنواعها ومضامينها، إضافة إلى أن المكان لم يكن فسحة مجانية كما تصوروا، فالبلاطات كانت مملوكة لأصحاب المحلات المخصصة ببيع الصحف والمجلات.

صباح اليوم التالي وصل غازي وغسان ومعهما ما يلزم للمهنة، اختارا أفضل الأمكنة وجلسا يتصيدان حاجات الناس الغادين والرائحين.. بعد وقت قليل، حضر الأقوياء مالكو بلاط الرصيف.. طارت الطاولة إلى وسط الشارع، وتناثرت الأوراق تحت الأقدام، وعادا للبيت منكسرين.

في يوم ماطر عاد “غسان” إلى البيت باكرا على غير عادته، يحمل الطاولة والكرسي، وابتسامة كبيرة على وجهه، ووضع على حضن أمه ليرة كاملة، وقال فرحا: رجل قروي يحمل ظرف رسالة، لم يجد في المكان المزدحم شخصا يقدر أن يكتب له الاسم والعنوان بالإنجليزية، وحين فعل غسان ذلك بسهولة، سر الرجل وأعطاه ليرة كاملة، اعتبرها غسان كافية لأجرة عمل يوم كامل.

بعد نجاحه، عمل “غسان “مدرسا في معهد فلسطين” التابع لوكالة غوث للاجئين الفلسطينيين، نهايات عام 1952، ليعلم طلابا من مثل عمره أو يقارب مادة الفنون الجميلة، وكان قبل ذلك قد قدم أوراقه إلى مدرسة تعليم الملاحة الجوية، وفي عام 1954 حصل غسان على الشهادة الثانوية – الفرع الأدبي، وانتسب إلى كلية الآداب.

أعماله الأدبية

36 عاما عاشها غسان أنتج خلالها ما يزيد على 18 عملا أدبيا، ولفتت موهبة غسان كنفاني الأنظار وهو في أول العشرينات حيث نشر قصة “القميص المسروق” بعمر 22 سنة، ونال عنها المرتبة الأولى في إحدى المسابقات الأدبية.

وكان أيضا فنانا تشكيليا، حيث ترك 36 عملاً زيتياً وملوناً أما الأعمال التى أنجزها بالفحم أو بتقنيات أخرى مثل قلم الرصاص والحبر فكثيرة، حيث كان ينشرها بمحاذاة النص القصصى أو القصيدة فى النشرة الملحقة لصحيفة (المحرر) أيام ستينيات القرن الماضى.

قدم غسان حياة الفلسطينيين بأدق تفاصيلها للعالم من خلال رواياته وشخصياتها، ما بين رواية “عائد إلى حيفا” التي استوحاها من تجربته الشخصية في اللجوء والنزوح، ومن ثم “رجال في الشمس” التي تجسد المصائب التي قد تجرها رحلة البحث عن حياة أفضل.

قائد سياسي

اعتمدت الجبهة الشعبية على “كنفاني” لإصدار بيانات مفصلية وتاريخية تحتاج إلى وعي سياسي رفيع، قائد سياسي تفوق في الوصول إلى حركات التحرر العالمية والقوى الثورية العالمية، خاصة في النرويج والسويد والدنمارك، وكان تأثير غسان واضحا على الكثيرين من الكتاب والصحفيين، أمثال الكاتب السويدي “ستافان بكمان”، فقد استطاع “غسان” تغيير وجهات نظر الكثيرين إلى الصراع، كما حدث مع الصحفي الدنماركي المؤيد والمدافع عن الاحتلال “يانس نانتروفيه”، الذي زار “غسان” في مكتبه وحاوره بطريقة استفزازية، ليقوم “غسان” بتحميله مراجع تتحدث عن جرائم الاحتلال ومجازر دير ياسين وكفر قاسم، ليعود “بانس” بعدها بأيام ويتغير شكل الحوار، وبعد أسابيع قليلة تنشر وكالات الأنباء ما كتبه “يانس” حول جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين.

لازال يرافقنا

تقول “آني كنفاني”، زوجة غسان في احد الحوارات التلفزيونية: اغتالوا غسان وناجي العلي وغيرهما من الشهداء والمثقفين والمفكرين الكبار، فإن كتاباتهم ورسوماتهم ما زالت ترافقنا وما زالت على قيد الحياة، اغتالوهم لأنهم شكلوا خطرا كبيرا على هذا الاحتلال.

اغتياله

في صباح يوم 8 يوليو 1972 كان غسّان يستعد للوفاء بوعدٍ أعطاه لابنة أخته الصغيرة “لميس”، لزيارة أقرباء في المدينة، وقد أخذته دردشة مع شقيقته فايزة وزوجته آني، قبل أن تلح “لميس” بالرحيل، وأمام باب المنزل لحقت طفلته “ليلى” بالركب، فمنعها “غسّان” بلوح شوكولاته، قبل أن يتوجّه إلى السيارة ويدير محركها ليدوّي صوتٌ أعظم من صوت التشغيل المعتاد، هرع الجميع إلى الساحة فلم يجدوا إلا أشلاء.

تم تفخيخ سيارته بقرار من “جولدا مائير” رئيس وزراء الاحتلال آنذاك، وكلفت جنرال في الموساد “زامير آمر”، بتولي المهمة عبر عملاء الاحتلال في لبنان.

لم ينفجر جسد “كنفاني” في بيروت وحدها، ولم تتناثر أشلاؤه في الحقول والبساتين القريبة فقط، بل إنها تعدت كل الأسلاك الشائكة وأبراج المراقبة والنقاط الحدودية وإجراءات التفتيش وتعدت أعين المخبرين لتصل إلى فلسطين، كامل فلسطين.

استشهد غسان لأن قلمه كان بندقية، بندقية مستقيمة لم تُوجه فوهتها يوما إلا لصدر العدو.

ربما يعجبك أيضا