ما دور القوى الوسطى في الحفاظ على النظام العالمي الليبرالي؟

آية سيد
لمواجهة تحدي الصين.. يجب على واشنطن التعلم من حلفائها الآسيويين

تواجه الدول الليبرالية الوسطى مفارقة صعبة، لأن تشكيل تكتل استراتيجي للدفاع عن قيمها، قد يأتي على حساب استقلالها، أو بعض مصالحها.


في ظل المنافسة الجيوسياسية والاستراتيجية المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين، تظهر مخاوف من إمكانية هيمنة بكين على النظام العالمي الليبرالي.

ويرى الباحث بمعهد العلاقات الأسترالية الصينية في سيدني، كوري لي بيل، والمتدربة السابقة بالمعهد الأسترالي للشؤون الدولية، ريبيكا زانج، أن القوى الديمقراطية الوسطى تستطيع أن تلعب دورًا في الحفاظ على توازن النظام العالمي.

تعزيز حقوق الإنسان

في كلمته أمام الدورة الـ77 للجمعية العامة للأمم المتحدة، سبتمبر الماضي، أعاد الرئيس الأمريكي، جو بايدن، التأكيد على آمال إدارته الكبيرة في الأمم المتحدة، وقال إن الولايات المتحدة “ستعزز دائمًا حقوق الإنسان، والقيم التي ينص عليها ميثاق الأمم المتحدة”.

وبعدها بأسبوعين، روج الإعلام الحكومي الصيني لنجاح بكين في عرقلة اقتراح تدعمه أمريكا، كي يناقش مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة مزاعم انتهاكات حقوق الإنسان في مقاطعة شينجيانج.

وأشار الباحثان، في مقال لهما بمجلة “ناشيونال انترست“، يوم الثلاثاء 8 نوفمبر 2022، أن هذا جاء بعد انفصال 66 دولة نامية، بينهم الصين، عن موقف واشنطن عبر الدعوة إلى تسوية سلمية للحرب الروسية الأوكرانية، التي من المرجح أن تكافئ روسيا، عبر المطالبة بالإذعان الجزئي لمطالب موسكو.

اختلافات في وجهات النظر

يلفت الباحثان إلى وجود اختلافات جوهرية في فهم واشنطن وبكين لدور الأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها، خاصةً في ما يتعلق بقضية شائكة مثل حقوق الإنسان، محذرين من هذه الاختلافات تضعف قدرة المؤسسات على تسهيل التعاون وتسوية الصراعات، وبسببها، تتجاوز الدول هذه المؤسسات وتتجه لشركاء بتفكير متشابه كما في التعاون بين الصين وروسيا.

وفي حين شدد بايدن، العام الماضي، على أن الولايات المتحدة “لا تسعى لحرب باردة جديدة، أو عالم منقسم لتكتلات جامدة”، يبدو أن واشنطن تبني تحالفات متعددة الأوجه، تهدف إلى احتواء الصين وروسيا، وتوسع صلاحياتهما، بما يمكنهما من العمل بالتوازي مع مجموعة واسعة من مؤسسات الأمم المتحدة، ونظام السوق الدولية الليبرالي.

منافسة بين الديمقراطية والاستبدادية

يبدأ إدراك حقيقة هذا الاختلاف في الخطاب السياسي، وفق الباحثين. وفي حين أن الرئيس الصيني، شي جين بينج، في كلمته الافتتاحية للمؤتمر الـ20 للحزب الشيوعي الصيني، أشاد بـ”النفوذ الدولي المتنامي للصين، وجاذبيتها وقوتها على تشكيل العالم”، كان تركيزه الرئيس على تخفيف المخاطر المتنامية على الأمن القومي.

وعلى الجانب الآخر، في وقت يروج بايدن لالتزامه بالعثور على “أساس مشترك” مع الدول الأخرى، لم تُخف كلمته أمام الأمم المتحدة أين تقف أمريكا في “المنافسة بين الديمقراطية والاستبدادية”.

وعلى الرغم من أن استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الأخيرة تحدثت عن حماية “النظام القائم على القواعد”، كشفت عن لهجة مناهضة للعولمة تُلهمها “نزعة كينزية” تهدف إلى استخدام الاقتصاد كسلاح في المنافسة مع الصين، وإلى حد ما روسيا، حسب أستاذ العلاقات الدولية، فان جاكسون.

رؤية بديلة للنظام الليبرالي

يطرح الباحثان تساؤلًا بشأن كيف يمكن للنظام العالمي الليبرالي استيعاب قيادة دولة مهيمنة اقتصاديًا غير ليبرالية بنحو متزايد، مثل الصين. وكانت إجابة بكين على هذا المأزق هي إصدار رؤية بديلة للنظام الليبرالي، المبني وفقًا لمفاهيم مثل “الازدهار المشترك”، والتعاون “المربح للطرفين”، و”المجتمع ذي المصير المشترك”.

واحترمت هذه الرؤى ميثاق الأمم المتحدة، وسعت لبناء إجماع أوسع بين “الجنوب العالمي”، عن طريق مراعاة أولويات الدول النامية، التي تشغل مستوى مختلف في تسلسل “ماسلو” الهرمي للاحتياجات الوطنية. إلا أن هذه الأفكار تُستخدم أيضًا لمحاولة عزل قضايا الحوكمة المحلية، خاصة حقوق الإنسان، عن رقابة الهيئات العالمية.

ويقول الكاتبان إنه إذا كانت النية وراء هذا، جزئيًّا، تبديد مخاوف القوى الغربية وطمأنتها أن القيادة الصينية لن يكون لها تأثيرًا سلبيًا في الرؤية التقدمية للنظام العالمي الليبرالي، فمن الواضح أنها لم تنجح، لأن الصين لا تحترم حقوق الإنسان، التي تعد واحدة من الركائز الأساسية للنظام العالمي الليبرالي.

التدخل في شؤون الدول الأخرى

يلفت الباحثان إلى أن عدم مراعاة الصين لحقوق الإنسان ينبع جزئيًّا من مزاعم بكين بأن الحق في الدفاع عن حقوق الإنسان “العالمية” يتيح للدول القوية انتهاك سيادة الدول الأخرى، عبر استخدام التدخل الإنساني كذريعة لمتابعة مصالح الهيمنة.

ووفق الباحثين، هذه الرؤية الصينية بها مشكلات واضحة، وقد يكون لها تداعيات هائلة على تايوان وبحر الصين الجنوبي، وهما منطقتين تدعي الصين وقوعهما في نطاق “مصالحها الجوهرية” و”ولايتها القضائية الداخلية”، لكنهما تحملان أهمية جيواستراتيجية كبيرة لأمريكا وحلفائها في الباسيفيك.

احتواء خصوم أمريكا

في ما يتعلق بالولايات المتحدة، يقول الباحثان إن بايدن يستخدم التحالفات المبنية على القيم، وكذلك القوة العسكرية والاقتصادية والهيكلية الأمريكية، لإقامة مؤسسات موازية تهدف إلى التحوط من تخريب الهيئات العالمية، وأيضًا تقويض سيادتها كوسائل لحل النزاعات بين القوى العالمية.

وفي ظل امتداد مكانة الصين القريبة من الولايات المتحدة إلى القوة الاقتصادية والتكنولوجية، وآفاق نجاحها الأكبر في ترجمة هذا إلى قوة هيكلية، تتشعب التحالفات القديمة، وكذلك الجديدة مثل الحوار الأمني الرباعي “الكواد“، من التعاون الدفاعي والأمني إلى أبعاد أخرى، مثل التعاون في الاقتصاد، والبنية التحتية، والتجارة، وأمن سلاسل الإمداد، والتكنولوجيا.

ويرى الكاتبان أنه من الواضح تمامًا أن المبدأ الأساسي لهذه المؤسسات الجديدة هو احتواء الخصمين الجيواستراتيجيين الأساسيين لأمريكا، الصين وروسيا، وأن هذه التحالفات تعيد بناء “النظام القائم على القواعد”.

موقف القوى الوسطى

في الباسيفيك، الذي تسعى فيه الصين للهيمنة الإقليمية المباشرة، تتضاءل الأرضية المشتركة أمام القوى الديمقراطية الليبرالية الوسطى، التي تمتعت لفترة طويلة بعلاقات أمنية وثيقة مع واشنطن، وحافظت على روابط اقتصادية قوية مع الصين. ولكن توجد إشارات بدائية على ميل هذه القوى لدخول تكتل أمني واقتصادي تقوده الولايات المتحدة.

ولفت الكاتبان إلى تضاؤل الآفاق أمام إيجاد حل وسط يجمع العلاقة التجارية القوية مع الصين، والرخصة الأمنية الأمريكية القوية، وأن “النزعة البوتينية” للرئيس الصيني تجعل الإذعان لصعود بلاده الإقليمي فكرة أقل قبولًا، ما يدفع إلى ضرورة أن تلعب هذه الدول الوسطى دورًا نشطًا حتى يولد أمل في تعزيز الهيمنة الإقليمية المتراجعة لأمريكا.

تحديات وصعوبات

تواجه هذه الدول مفارقة صعبة، لأن تشكيل تكتل استراتيجي للدفاع عن قيمها، قد يأتي على حساب استقلالها، أو بعض مصالحها. ويشير الكاتبان إلى حقيقة أن حصر هذه القوى الوسطى لنفسها داخل تحالف تقوده أمريكا يعرضها لعواقب خطيرة، إذا فشلت استراتيجيات الاحتواء الأمريكية، ويجعلها عرضة لأشكال من الالتزامات المحددة من جانب واحد.

ووفق الباحثين، هذا الاتجاه يعني أيضًا أن الأمن يعتمد على نجاح هذه الدول في ضخ استثمارات مستمرة ومكلفة للحفاظ على توازن القوى. هذا لأن الاستثمار في الحدّ من هيمنة الهيئات الدولية، التي تشارك فيها مع الصين، واتباع استراتيجيات المرونة، التي تقلل الاستقلال التجاري مع بكين، تخفف من خطر تصاعد الخلافات الدبلوماسية إلى صراع مباشر.

التراجع عن حافة الهاوية

وختامًا، يقول الباحثان إن الأمل في التراجع عن حافة الهاوية يستند على إعادة التساؤلات الصعبة المتعلقة بالقيم والثقافة السياسية، وتوافقها مع النظام الليبرالي، إلى الطاولة. وإذا كانت القوى الديمقراطية الوسطى ستلعب دورًا لدفع الصين نحو الاستجابة لشروطها لاستيعاب فكرة قيادة بكين للنظام العالمي.

ويجادل الباحثان أن أن هذا قد يحدث فقط إذا نجحت تلك الدول في إقناع الصين بأن الانتصار الحقيقي للسياسة ليس “فوز الطرفين”، بل ضرورة ألا يحصل أحد على ما يريد.

ربما يعجبك أيضا