نجيب سرور.. أنا صليبي تعب يا مصر من كتفي

شيرين صبحي

رؤية- شيرين صبحي

ذات يوم كان الشاعر نجيب سرور يرتدي قميصًا عاديًا، لكن أصدقائه فوجئوا أنه يلف حول عنقه خيط دوبارة بدلا من رابطة العنق، فضحكوا وسألوه عن السبب، فأجاب أنه يخشى أن يفتح الدوبارة فينفتح معها لسانه الذي لا يرضي الحكومة!

لكن نجيب لم يخش يوما ولم يخف، بل كان يحذرنا من الخوف، فالخوف قواد “قل ما تريد لمن تريد كما تريد متى تريد.. لو بعدها الطوفان قلها فى الوجوه بلا وجل: الملك عريان.. ومن يفتى بما ليس الحقيقه.. فليلقنى خلف الجبل! انى هنالك منتظر.. والعار للعميان قلبا أو بصر”.

في أسرة فقيرة ولد سرور مثل هذا اليوم 1 يونيو عام 1932 بقرية أخطاب بالدقهيلة لأب فلاح فقير، ليصبح “ابن الشقاء” يراه بعينيه يلف جسوم الملايين من أمته، ليخبرنا فيما بعد عن قريته وعمدتها “الإله” الذي يحيط بأعناق أبناءها كالقــدر، بعدما شهد ضرب والده بالحذاء من هذا “الإله”، فيظل يتساءل لماذا أبي؟ “وكان أبى صــامتا فى ذهول/ يعــلق عينيــه بالزاويـة/ وجـدى الضــرير/ قعيـد الحصــير/ تحسسنى وتولى الجـواب: بنى .. كذا يفعل الأغنيــاء بكل القرى”.

كان من الطبيعي أن يكره سرور “الإله” منذ الصغر، حتى أنه بدأ يقول شعرا نضاليا وهو لا يزال تلميذا، ليظل عالقا بذهنه حتى بعد انتقاله إلى القاهرة والتحاقه بكلية الحقوق، لكن ميله المبكر إلى المسرح جعله يتجه في نفس العام إلى المعهد العالي للفنون المسرحية، وعندما تخرّج وأخذ الدبلوم 1956 ترك كلية الحقوق، حيث تم تعيينه بالمسرح الشعبي.

لم يمر عامان حتى ذهب سرور في بعثة لموسكو، وهناك ضرب العزلة حول نفسه لاقتناعه بأن المبعوثين المصريين آنذاك كانوا منتقين بعناية من أجهزة المباحث بحيث لا يفلت منهم تقدمي واحد.. وهناك تزوج من طالبة الآداب السوفيتية ساشا كورساكوفا التي أنجب منها ولديه شهدي وفريد.

بعد عودته إلي مصر بدأ مسيرته الفنية التي استوحى خلالها التراث الشعبي استهلها عام 1965 بـ “ياسين وبهية” وأخرجها كرم مطاوع وتمثل الجزء الأول من ثلاثيته التي تضم “آه يا ليل يا قمر” و”قولوا لعين الشمس”. وسرعان ما تجددت معاناته عام 1971 عندما كتب وأخرج “الذباب الأزرق” عن مذابح أيلول الأسود في الأردن، إذ منعت أجهزة الرقابة في القاهرة عرض المسرحية.

عاش نجيب إحباطات شعرية لا تنتهي فقد أدركته حرفة الأدب، وكتابة الأشعار، فكان نصيبه التشرد والحبس، يفتش في مدينته عن اسمه فلا يجد سوى الموت الأسود، الذي لا تجدى معه الحرب، ولا يجدى معه غير الصبر والإصرار والصمت، بل والمكر!

كان السجن والاضطهاد والنفي والفصل من العمل بل والا ختطاف من الشارع وإيداعه بمستشفى الأمراض العقلية؛ جزاء للشاعر الماركسي الثائر الذي لا يلين وظل يهاجم في نصوصه المسرحية الأنظمة العربية “يعنى يا إما السجون يا الشنق يا الهجرة/ يا إما تهمه جنون يا العيشه ع الصلبان”.

في مدينته ظل نجيب يموء كقطة جريحة فى البرد بغير مأوى، يقطع كل يوم رحلة الضياع، فلا يرى الصباح سوى وجه قرد، ويرى كل الناس دمى من قش، يعيش بينهم “جوعان فى القرن العشرين/ والإنسان الجائع كلب”..!

كان للسادات النصيب الأكبر في هجوم سرور “أنور نسى .. كلنا بننسى على الكرسي/ نسى العذاب والصياعه والضياع والجوع”، وكانت له نبوءته الدائمة حول اليهود، وظل يكرر على مسامع أحد أصدقائه بأنه يرى العلم الصهيوني يرفرف في سماء القاهرة، وهو ما عبر عنه في إحدى قصائده الشهيرة التي يقول فيها:

لو طبّوا بكره اليهود يا مصر وخذوكي
والله ما حيشيلوا من فوق الكراسي حد
حيلاقوا مين يحكمك غير اللي باعوكي
مفروشه ليهم وقدم سبت تلقى الحد
مبروك عليك البلد يا موشى يا دايان
تخش تاخذها بس من غير حرب
أملة ما يحلم بها ولا حتى جنكيزخان

“ماعدشي غير دمي يالا سيحوا دمي، أنا صليبى تعب يا مصر من كتفى، أنا أبويا انقتل يا مصر بعد أمي، وأنا كمان هانقتل وَلاَّ هاموت منفي”.. لم يعمر سرور طويلا حيث رحل في في 24 أكتوبر 1978 بمدينة دمنهور عن 46 عاما، وكان قد تنبأ بموته أكثر من مرة “أنا عارف انى هاموت موته ما متها حد/ وساعتها هايقولوا لا قبله ولا بعدُه/ وبطانة بتقول يا عيني مات في عمر الورد/ وعصابة بتقول خُلُصْـنا منه .. مين بعده”!

ربما يعجبك أيضا