نشاكس في الموت سلطته ونزهد حيث الحياة!

شيرين صبحي

رؤية- شيرين صبحي

“هيهات أن يدري أحد عن أحاديث الظلام، عن رعب الظلام، عن الهاوية التي ليس لها قرار.. في الظلام تطمس معالم كل شيء إلا الموت.. الموت وحده يُرى بلا ضوء.. وهو كالظلام لا شيء يؤخره عن ميعاده, وإذا جال بالخاطر فقد كل شيء قيمته وحقيقته ومعناه”.

تعرف شيخ الروائيين أديب نوبل الراحل نجيب محفوظ، على الموت أول مرة وهو طفل في السادسة من عمره، عندما أقام في بيتهم ابن أخت له في سن الرابعة، ثم مات بعد مرض قصير، فعرف صدمة الموت الأولى.

لقاؤه الثاني مع الموت كان عام 1937 حين رحل والده، وكان حينها يستعد لكتابة رسالة الماجستير حول التصوف في الفلسفة، بعدها بثمان سنوات كتب أول قصة عن الموت بعنوان “صوت من العالم الآخر”.

في كتابه “نجيب محفوظ.. رحلة الموت في أدبه” يقول الناقد المصري حسين عيد، أنه توقف طويلا أمام قصص “دنيا الله” التي صدرت عام 1962 واكتشف أن خمسا منها “خاضت تجربة الموت”، وأن رحلة الموت شغلت 58 حلما من “أحلام فترة النقاهة” التي صدرت في كتاب متضمنة 146 حلما، أي أن الموت شغل نحو 40 بالمائة من كتابات محفوظ في السنوات العشر الأخيرة بعد نجاته من محاولة اغتيال في أكتوبر 1994.

في روية “اللص والكلاب” يلجأ البطل سعيد مهران أثناء مطاردته من قبل الشرطة إلى بيت يطل على مقبرة، فيظل يرقبها “العديد من المقابر الأرض تمتد بها حتى الأفق رافعة أياديها في تسليم وإن يكن شيء لا يمكن أن يهددها.. مدينة الصمت والحقيقة.. ملتقى النجاح والفشل والقاتل والقتيل.. مجمع اللصوص والشرطة حيث يرقدون جنبا إلى جنب لأول ولآخر مرة في سلام”.

في رواية “خان الخليلي” يموت “رشدي”، وهو الأمر الذي يظل شقيقه أحمد يتذكر تفاصيله لحظة بلحظة، يذهب إلى البائع لشراء كفن، فيتذكر ما اشتراه له بالأمس من متاع الدنيا، يذهب إلى المركز الصحي لاستخراج تصريح دفن, فيسأل عن اسم المتوفى, فيجيب: رشدي عاكف.. ثم يقول لنفسه بذهول: “رشدي عاكف مات أفظع بها من حقيقة”..!

وفي مجموعة “شهر العسل”، يتأمل الموت بوصفه مأساة فردية، حيث يرحل وحيدا “الموت أكبر كارثة في الوجود أكاد أجن كلما فكرت أن هذا العالم سيمضي في طريقه عقب اختفائي وكأنني لم اعايشه لحظة واحدة”.

ونشاهد عبد العظيم في مجموعة “دنيا الله” وتفكيره في الموت والمصير الذي ينتظره.. “ومضى عبد العظيم إلى القبر المفتوح، فوقف عند رأسه مذعنا لقوة غامضة أقوى من الخوف الذي لم يصده, كان القبر ذا منامتين، واحدة للرجال وأخرى للنساء، وأرسل طرفه الحائر نحو منامة الرجال.. رآهم صفا متراميا إلى الداخل على رأسهم أبوه الذي استدل عليه بموضعه وبكفنه الكموني المقلم، تلاه أخوه ثم جده، وثقل قلبه جدا، وضغط الانقباض على أضلعه ضغطا غير محتمل، ولكن عينيه تحجرتا فلم تذرفا دمعة واحدة، وامتلأت خياشيمه برائحة ترابية نافذة وكأنما تصدر عن الفناء نفسه.. ومرت لحظة مات فيها كل شيء فلم يعد لأمر قيمة ولا معنى”.

بين السخرية والخوف

ألقت تجربة رحيل والد الكاتب يوسف السباعي، وهو لا يزال في الرابعة عشر من عمره، ظلالها على نظرته للحياة، وفي لقاء مع الإعلامي مفيد فوزي قال: “كان لموت أبي تأثير لا حدود له علي، كانت هذه أول مرة أرى فيها الموت! وما زلت رغم السنين أذكر الصورة جيدًا، انخطف أبي خلال أيام قليلة. رأيته وهو راقد على الفراش مستسلما لكمادات الثلج، ورأيته وهو يموت! يأخذ شهيقا ثم زفيرًا بضع مرات.. ثم شهيق بلا زفير! ثم انهمر الصراخ وأحاطت بي الدموع من كل جانب كالفيضان، هذه الصورة، تسللت إلى وجداني ولم تفارقه.

أملت على نظرة ما نحو الموت! و لو عدت لقصصي (نائب عزرائيل) و(البحث عن جسد) لاكتشفت أنني أسخر من الموت، وأعتبره خصمًا أود لو أصرعه، لقد كنت أحاول ككاتب أن أزيل هيبة الموت وأجعل الناس تراه كما أراه: مجرد حالة انتقال من الحركة إلى السكون والجمود واللاحركة”.

على العكس كان الكاتب السوري جورج سالم، يقلقه الموت بدرجة مرعبة وهو ما جعله يكتب عنه كثيرا، وقد رحل سالم عن الدنيا قبل أن يتجاوز الثالثة والأربعين من عمره. كان يقول: “الغاية من الكتابة عندي، هي مجابهة الشعور بالموت على الصعيد الفردي والصعيد الاجتماعي والتغلب عليه، ولكنه يحاصرني أبدا”.

في مجموعته “حوار الصم” موظف متقاعد، أقعده المرض، تسيطر عليه فكرة الموت وتحرمه من متعة الحياة. أما بطل رواية “في المنفى” فهو شخص متحجر أمام الموت لا يصاب بالحزن والكآبة، ويكتفي بقوله أمام جلال الموت: “آلمني موت هذا الفتى كثيرا، ما كان له أن يموت”. لكنه مع هذا يعيش في غربة نفسية، وتسيطر عليه مشاعر الخوف من الموت الشخصي.

يتجلى الموت في العديد من أبيات الشعر، ففي قصيدة أهداها الشاعر العراقي علي ناصر كنانة، إلى سركون بولص، نقرأ:

يرحلونَ ونرحلُ.. كلٌّ إلى حتفِهِ:
ذاكَ المبقّعِ بالدمِ
أو ذا الملطّخِ بالغربةِ القاتلةْ
وكثرٌ هُم الراحلونَ،
لكننا
– الاختلافُ الملّحُ في صفحاتِ المرايا –
قادمونَ على غيرِ خطوٍ
على غيرِ ما تشتهي الراحلةْ
من الموتِ كانَ كثيراً،
وكثيرٌ من الموتِ
نلعبُهُ كالقليلِ،
نشاكسُ في الموتِ سلطتَهُ
ونزهدُ حيثُ الحياةُ: الغوايةُ

“- البقية في حياتك…
أتطلع إليها في بلاهة.. تفلت الحروف بمشقة من مسام نحيبها !!
–  من بضع دقائق فقط.. بين يديَّ !!
– البقية في حياتك…
من…؟ أنا.. فيمن؟!.. ولم؟!”.

في رواية “هذيان على قبرها” يحكي الكاتب محمد القصبي قصة زوج يفقد زوجته في ريعان شبابها بعدما أصيبت بمرض خبيث، تاركة له طفلين، فيصيبه ذلك بالهذيان، ويبدأ في اجترار الذكريات التي تكشف لنا الأحداث شيئا فشيئا.

يتجلى المعتقد الشعبي الذي يربط بين الموت، وبين الليل، ونباح الكلاب، فنقرأ: “يرعبني الليل… كل الذين ماتوا في القرية لفظوا أنفاسهم وهم نيام ليلا”.. وفي موضع آخر “يشق رذاذ المطر صوت يرعبني، كلب ينبح، آخر يشاركه. هل هبط ملاك الموت؟ على من؟ سمعت عمي يقول مرة لأحد أصدقائه: إن الكلاب حين ترى عزرائيل يشتد نباحها”..!

.. وغدا نستكمل حكايات الموت داخل الروايات الأجنبية

ربما يعجبك أيضا