ألمانيا.. معضلة الفصل بين التطرف وحرية الرأي

جاسم محمد

رؤية ـ جاسم محمد

ألمانيا ملاذ آمن للجماعات “الجهادية”، هكذا توصف ألمانيا من قبل أغلب المراقبين والمعنيين في الشأن الألماني وقضايا الإرهاب والتطرف. و”الجهاديون” يجتاحون ميادين ألمانيا حتى عام 2015، ويرفعون الرايات ويوزعون المنشورات ويدخلون في مناوشات مع رجال الشرطة، إلى حد أن أحد أفراد الشرطة رفع راية داعش، في إحدى مظاهرات خلال إحدى تظاهراتهم، ربما محاولة لامتصاص غضبهم، هكذا هو المشهد “الجهادي” في ألمانيا، حتى أن تنظيم داعش لم يكن محظورا، ولم يصنف منظمة إرهابية إلا في سبتمبر عام 2014، في أعقاب انضمامها إلى التحالف الدولي لمقاتلة تنظيم داعش.

أعلنت المبادرة “الجهادية” التي انطلقت سنة 2012 بشعار (اقْرَأ)، ونجحت الجماعة في توزيع اكثر من مليوني نسخة، أو (قرآن لكل أسرة ألمانية)،وفقا لخطتها. وقدم أبوناجي، أحد مؤسسي هذه الجماعة، ندوات ومحاضرات في مساجد مختلفة كما يقوم بتقديم في التطرف على قناة يوتيوب الجدد، وذلك بالتعاون مع الداعية السلفي، المثير للجدل، بيير فوغل. يذكر أن السلفية “الجهادية ” تقدم “الجهاد” بالدرجة الأولى وتؤمن بأن [الجهاد فرض عين].

ويعرب دوما جهاز الاستخبارات الداخلية الألمانية في تقاريره  عن تنامي الحركة “الجهادية”، وذكر أن السلفية “الجهادية” تشكل مجموعة ذات نمو سريع جدا، وأشارت أجهزة المراقبة إلى ان السلفية “الجهادية” وصل عددها إلى اكثر من أحد عشر ألف شخص، تتركز في ولاية “نورد ويستفاليا” Nordrhein Westfalen شمال غرب ألمانيا.

وتتواصل في ألمانيا خلال هذا العام 2019 محاكمة أحد عناصر داعش وهو”أبوالولاء” العراقي، المتهم بتزعمه لتنظيم داعش في ألمانيا، حيث يتهم من قبل السلطات الألمانية بالتسبب في تطرف الشباب في ألمانيا، وخاصة في منطقة الرور ومنطقة هيلدسهايم، وإرسالهم إلى مناطق الحروب. ومن أكثر مظاهر “الجهادية المالية” بقاؤها إلى اليوم وتوجهها حاليا نحو الشبكة العنكبوتية السوداء، سواء لعرض قوتها العسكرية ووسائلها في التنظيم والتدبير والتسيير أو لنشر كراسات متخصصة في التخريب ونشر الفوضى، أو كذلك لدعوة أنصارها إلى المزيد من دعم هذه القدرات وتطويرها وفق قدراتهم الذاتية.

المشكلة تكمن في أن ألمانيا توصف من أكثر الدول ألأوروبية التي تعتمد “قوالب” جاهزة في الدستور، ونمطية إلى حد كبير في معالجاتها القانونية.

سد الثغرات

لكن المشهد تغير كليا في أعقاب الهجمات التي عصفت في ألمانيا وأوروبا في أعقاب عام 2014، وبدأت ألمانيا فعليا في اتخاذ خطوات وقوانين، رغم أنها لم تكن منسقة، ويمكن وصفها، أنها كانت ردود أفعال، حالها حال بقية دول أوروبا أبرزها فرنسا التي ضربتها أعنف الهجمات الإرهابية في نوفمبر 2015، وبروكسل في مارس 2016، ولندن وعواصم أخرى.

سد الثغرات.. وكأن ألمانيا باتت مهددة من الداخل، فلا القدرات ولا الإمكانيات الأمنية والاستخبارية كانت قادرة على وضع حد للتهديدات الإرهابية، وهذا ما أكدته تصريحات  كبار مسؤولي أجهزة الاستخبارات، بأن الهجمات لا يمكن منعها ولا يمكن التكهن بها، خاصة تلك التي تصنف تحت مسمى “الذئاب منفردة”.

ألمانيا.. هي أرض “المدد” عند الجماعات “الجهادية”، وهي لا تختلف كثيرا عن (جبال حطاط في اليمن) و(جيش أبين) في الأدبيات “الجهادية”، فمنها تنطلق الجماعات المتطرفة لتنفيذ عملياتها في باقي دول أوروبا. الاستخبارات الألمانية إلى جانب الاستخبارات الفرنسية والسويسرية، كشفت مؤخرا، أن ألمانيا فعلا هي “الملاذ الآمن” للجماعات “الجهادية” منها تحصل خلايا التطرف والإرهاب والدعم اللوجستي ومنها يبدأ التخطيط.

المشكلة تكمن في “شرعنة التطرف من داخل ألمانيا” من حيث لا تقصد، تحت باب حرية التعبير عن الرأي والعقيدة وممارسة الطقوس والعبادات. اليوم المشهد اختلف كثيرا في ألمانيا، وقد حزمت أمرها بالفصل بين “الترويج للتطرف” وتقديم الدعم اللوجستي للجماعات المتطرفة في سوريا والعراق وليبيا ودول أخرى، وبين التعبير عن الرأي. اليوم يبدو أنها نقطة فاصلة في تاريخ ألمانيا، بفصل التطرف عن حرية الرأي. لكن رغم ذلك يبقى التحدي قائما، ولم ينته التهديد عند هذا الحد لا في ألمانيا ولا في دول أخرى، عندما يتعلق الأمر بالتهديد من داخل ألمانيا، فلم يعد الإرهاب مستوردا.

الموضوع لم يعد محددا في مسلك الحدود، والوسائل الصلبة وعسكرة الأمن بقدر ما هو متعلق بسياسات الأمن المجتمعي الذي تتضافر فيه جهود الأسرة والأمن والمدرسة والبلديات والإعلام، لكن تبقى مشكلة مواجهة التطرف، والنزوح إلى التطرف عند السباب، خاصة فيما يتعلق بالتطرف الإسلاموي، يبقى قائما، وما ينبغي أن تتخذه ألمانيا من سياسات جديدة هي: معالجات فكرية وتطبيقات الوقاية من التطرف.

لكن السؤال: ما هي الشريحة التي يمكن تطبيق برامج الوقاية من التطرف معها أو المعالجات الفكرية؟

أجهزة الاستخبارات لم تتردد في الاعتراف بأن الجماعات الخطرة والشديدة التطرف والتي ساهمت بالقتال مع تنظيم داعش وعادت، في الغالب لا يمكن تطبيق هذه البرامج معها، وما يدعم هذه الفكرة، أن عائلات عناصر داعش، يرفعون باستمرار رايات تنظيم داعش ويهتفون بحيات زعيم التنظيم أبوبكر البغدادي في مخيم الهول شمال شرق سوريا، خلال شهر يوليو الجاري 2019، وبعد خسارة التنظيم آخر جيوبه في سوريا، الباغوز، تخلى التنظيم عن مقاتليه في سوريا والعراق، لكنه زرع الأيدولوجية المتطرفة في أذهانهم، وهذا ما جاء على لسان قيادات التنظيم بالقول: خسارة التنظيم لما يسمى “دولة الخلافة” لا يعني خسارة التنظيم، “فالخلافة” الافتراضية تعيش في العقول، وهذا يعني أن مشكلة الإرهاب والتطرف لا تتحدد في المكان بقدر ما يتعلق الأمر بالعقول خاصة عند الشباب.

ما ينبغي أن تقوم به الحكومة الألمانية، هو تفعيل برامج وتطبيقات الوقاية من التطرف، وتعزيز سياستها أيضا في مجال محاربة التطرف وخطاب الكراهية، ووضع حد أيضا لتمويل أئمة التطرف الذين يتخذون بعض المساجد والمراكز الدينية منابر لخطاباتهم.

ربما يعجبك أيضا