جنوب السودان.. نيران حربٍ لم تنطفئ

نرمين توفيق

رؤية

بقلم – نرمين توفيق

حصلت السودان على استقلالها بعد حق تقرير المصير عام 1956، لكن ما لبث هذا أن أسهم في زيادة التوترات الداخلية في طبيعة العلاقة بين الشمال والجنوب، وقبل الحديث عن الحرب الأخيرة في جنوب السودان ينبغي الإشارة أولا إلى الحرب الأهلية في السودان قبل الانفصال.

تعد هذه الحرب من أطول وأصعب الحروب الأهلية في القارة الأفريقية (1955- 2005)، وخسائرها كانت باهظة سواء على مستوى أعداد الضحايا حيث مات أكثر من 2 مليون شخص بسببها، هذا غير الإصابات والدمار الذي حل بالدولة، ولم تنعكس آثارها على الداخل السوداني فقط وإنما امتدت لدول الجوار.

أسباب اندلاع الحرب في السودان

إذا أردنا أن نحصر أسباب اندلاع الحرب في السودان، فإننا سنحيلها إلى الظروف التالية:

1- فشل الحكام في إدارة التعددية الإثنية في الدولة

من أهم المشاكل التي أدت إلى انفجار الحرب الأهلية هي فشل الحكام في إدارة التعددية الإثنية بالسودان، ولعل هذه المشكلة نراها في العديد من الصراعات الأهلية في دول أفريقية أخرى، حيث يقوم النظام الحاكم بتمييز جماعة إثنية على باقي الجماعات الموجودة في الدولة سواء على مستوى السلطة والمناصب او على مستوى التنمية؛ وهذا ما حدث حيث لم يستطع النظام الحاكم في شمال السودان  استيعاب الجنوب، وكانت هناك محاولات دائمة لفرض الهوية العربية عليه وهو ما رفضه الجنوبيين بشدة.

وإذا ما نظرنا إلى التركيبة الثقافية للمنطقتين نجد أن معظم سكان شمال السودان مسلمون، ويعتبر الإقليم جغرافيا وثقافيا جزء من المنطقة العربية، بينما يسكن جنوب السودان المسيحيون وأصحاب المعتقدات الطبيعية ومسلمون أيضا.  ويُعتبر الجنوب ثقافيا جزء من منطقة جنوب الصحراء الكبرى ويرى الجنوبيون أنفسهم أفارقة وليسوا عربا، ومن ثم فإنه مع وصول الإسلاميين الى الحكم في السودان وعلى رأسهم السياسي حسن الترابي الذي لعب دورا هاما في المشهد السياسي بالسودان على الرغم من عدم توليه رئاسة البلاد، الذي تبنى فكرة أسلمة وتعريب الجنوب، وتحالفه مع الرئيس عمر البشير في بداية حكمه تصارعت وتيرة الحرب بين الشمال والجنوب لرغبة الإسلاميين في تعريب جنوب السودان.

2- الاستعمار البريطاني وبصماته في تأجيج الصراع

الاستعمار البريطاني كان له يد أيضا في تأجيج الأزمة، فقد عمل على تسييس الخلافات الدينية والعرقية وفصل الشمال عن الجنوب، وتم تشجيع نشر المسيحية ومنع أي مظاهر عربية أو إسلامية في الجنوب، وعندما حدث الاستقلال لم يكن هناك ترتيبات مؤسسية كافية أو وجود توافق وطني بين الشمال والجنوب حول نظام الدولة، فالجنوبيون فضلوا النظام الفيدرالي واعتبروا أنه الحماية الوحيدة لهم من التبعية للشمال، الأمر الذي رفضه الشماليون تمامًا ورأوا أن الحكم لا بد أن يظل مركزيا لأن الفيدرالية ستكون الخطوة الأولى نحو الانفصال.

مراحل الحرب الأهلية السودانية

مرت الحرب الأهلية بالسودان بمرحلتين، المرحلة الأولى كانت في (1955 – 1972) ثم توقفت ما يقرب من العشر سنوات بعد توقيع اتفاق أديس أبابا عام 1972 الذي قضى بالحكم الذاتي لإقليم جنوب السودان وتعيين رئيس إقليمي للجنوب من قبل الرئيس السوداني، لكن الاتفاق ما لبث أن فشل وتجددت الحرب الأهلية السودانية في مرحلتها الثانية مرة أخرى منذ ( 1983- 2005).

شكلت المعارضة السودانية في الجنوب حركات تمرد مسلح لمقاومة قادة الشمال، وعلى رأس هذه المجموعات عصابات الأنيانيا لكنها لم تصمد كثيرا بسبب الانشقاقات الداخلية.

 إلا أن الأمر لم يتوقف عند انهيار الأنيانيا، حيث تشكلت بعد ذلك حركة التمرد الأكثر شراسة وهي الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون جرنج، وواجهت القوات الحكومية الشمالية لدرجة أنتهكتها وأجبرتها على الدخول في مفاوضات معها انتهت عام 2005 باتفاق نيفاشا الذي أنهى نصف قرن من الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب. وكان من بنوده إعطاء سكان جنوب السودان حق تقرير مصيرهم بالانفصال عن الشمال أو البقاء معه، وتم تعيين جرنج نائبا أول لرئيس الجمهورية في السودان (قبل الانفصال) ورئيس حكومة جنوب السودان، وحدد الاتفاق 6 سنوات يُجرى بعدها الاستفتاء، وهذا ما حدث بالفعل حيث وقع الاستفتاء عام 2011 وجاءت النتيجة بتأييد انفصال جنوب عن السودان ليصبح دولة مستقلة بذاتها، في خطوة لم تكن مبشرة أبدا بما هو قادم.

انفصال الجنوب وطبول الحرب الأهلية الجديدة

ما لبث أن حقق الجنوبيون مطلب الانفصال عن الشمال في استفتاء عام 2011 حتى دخلت الدولة الوليدة في حرب أهلية طاحنة، فما السبب في ذلك؟

علينا في البداية أن إلقاء الضوء على بطلا الصراع في المشهد الجديد:

الأول : سيلفا كير رئيس الجنوب الذي تقلد منصب نائب رئيس السودان ورئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان خلفاً للعقيد جون جرنج بعد وفاته في حادث مروحية 2005، ثم رئيسا لجنوب السودان بعد الانفصال، ويتنمي لجماعة الدنكا أقوى جماعات الجنوب وأكثرها عددا حيث تمثل الأغلبية في الجنوب، كير صاحب قبعة “الكاوبوي” يوصف دوما بانه أكثر تشددا من جرنج، وهو يحرص على رسم صورة قوية لنفسه دائما ولا يرتدي الزي التقليدي لأبناء قبائل المنطقة.

الثاني: ريك مشار نائب سليفا كير الذي اشتهر بقدرته على المناورة السياسية والتنقل بين أطراف الصراع وقت الحرب بين الجنوب والشمال، وهو من قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان ومؤسسيها، وبعد اتفاق السلام عام 2005 ووفاة جرنج عينت الحركة مشار في منصب نائب رئيس حكومة جنوب السودان أي نائبا لكير، واحتفظ مشار بمنصبه عقب إعلان دولة جنوب السودان عام 2011.

وينتمي مشار لجماعة النوير وهي أيضا من أبرز جماعات الجنوب وتمثل ثاني أكبر جماعة اثنية في جنوب السودان، ووجود مشار في مناصب عليا بالسطة أحدث توازن بين الدنكا والنوير وساهم الأمر في البداية في تعزيز الوحدة في جنوب السودان وتقاسم السلطة مع الدينكا، إلا أن النفوذ الكبير الذي حظى به مشار أقلق كير، لذا أقاله في 2013 بعد اتهامه بمحاولة الانقلاب عليه، وهنا اعتبر النوير أن محاولة اقصاء مشار هي محاولة لاقصائهم عن السلط؛ لذا اندلعت  الحرب بين الجانبين في يوليو من نفس العام وبعد أقل من عامين من الانفصال عن الجنوب، حيث أيد المنتمين للدنكا موقف سليفا كير ودافع النوير عن ابنهم مشار.

اتخذ الصراع صفة الإثنية (بانحياز كل من طرفي الأزمة لجماعته)، وهرب مشار من العاصمة جوبا إلى بلدة باغاك (شرق البلاد) على الحدود مع إثيوبيا خوفا من قتله أو اعتقاله، ليشغل  واستمر الصراع لعامين مسفرا عن سقوط نحو 10 آلاف قتيل مع تدهور الوضع الإنساني فيي جنوب السودان، ومناشدة دول الجوار والمؤسسات الإقليمة والدولية أطراف الصراع بالوقف الفوري له.

وفي أغسطس / آب 2015، توصل الجانبان إلى اتفاق سلام، بعد تهديدات أممية بفرض عقوبات عليهما، واتفق الجانبان على تشكيل حكومة انتقالية مناصفة بين حكومة جوبا والمتمردون، وتولي مشار منصب نائب الرئيس، وهو المنصب الذي كان يشغله قبل اندلاع الحرب الأهلية.

بعد توقيع اتفاق السلام بين الجنوبيين لاحت في الآفق فرصة لتحقيق السلام على أرض الواقع مع رجوع مشار إلى العاصمة جوبا مرة أخرى في إبريل 2016 وأدائه اليمين كنائب للرئيس، وعد لسيلفا كير بإعادته الى منصبه لكن الرياح أتت بما لا تشتهيه السفن من جديد مع تجدد الصراع مرة أخرى بين الطرفين وبعد أقل من 4 شهور من عودة مشار تم إقالته من جديد وتعيين نائي غيره لسيلفاكير وهو تابان دينج جاي، الذي كان له دور في مفاوضات السلام، خلفا لرياك مشار.

الأمور لا تبشر بخير في التطور المتسارع للأزمة، ولعل السبب الرئيسي فيها هو غياب الثقة بين طرفي الصراع، وهناك حاجة ماسة إلى وجود رغبة حقيقية ومفاوضات ملزمة للطرفين وإلا فستسير الأوضاع إلى الأسوأ في أحدث دولة وليدة في العالم وهي جنوب السودان.

ربما يعجبك أيضا