صفقة القرن.. تسريبات لجس النبض ورهان على الاقتصاد

محمد عبد الدايم

كتب – د. محمد عبد الدايم

عاد الحديث وبقوة، الخطة قاربت على الانتهاء في المطبخ الأمريكي، “صفقة القرن” التي أعلن عنها دونالد ترامب في بداية ولايته قبل عامين يبدو أنها أصبحت جاهزة للتقديم، بعد أن قال جاريد كوشنر في مؤتمر وارسو إنها ستُقدم عقب الانتخابات الإسرائيلية في إبريل، والآن تأجل الإعلان مرة أخرى إلى يونيو القادم، ريثما ينتهي بنيامين نتنياهو من مشاوراته لتشكيل الحكومة الجديدة، وينتهي شهر رمضان بالنسبة للدول العربية.

صفقة القرن هذه يجري الدفع بها الآن على عجل، حيث يرغب ترامب في إقرارها قبل انتهاء ولايته في 2021، وسبقها باعتراف بلاده بالقدس عاصمة لإسرائيل، ثم اعترافه بسيادتها على الجولان السورية، كما خلت صفقته المزعومة من أي سيادة فلسطينية كاملة على الأرض، أو عودة للاجئين، ناهيك عن الزعم بتنازل مصر عن جزء من أرضها المتشربة بدماء جنودها لصالح الفلسطينيين.

مؤخرًا، الأسبوع الماضي، نشرت صحيفة يسرائيل هايوم ما قالت إنه “تسريب” لوثيقة مصدرها وزارة الخارجية الإسرائيلية تحمل التفاصيل الكاملة لصفقة ترامب، ولم تعلن جهة بالوزارة عن مسئوليتها عن تسريب الوثيقة، كما لم تعلق جهة بعينها على مدى صحة ما جاء ونشرته الصحيفة باعتباره “البنود الكاملة لصفقة القرن”.

وفقًا لما جاء بالصحيفة؛ فإن الصفقة تتألف من تسعة بنود رئيسة، هي:

أولًا: الاتفاق الثلاثي بين إسرائيل من جهة وبين كل من منظمة التحرير وحماس من جهة أخرى، ويقضي الاتفاق بإقامة دولة “فلسطين الجديدة” على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، باستثناء المستوطنات الإسرائيلية القائمة.

ثانيًا: الإخلاء والامتداد: أي يتم إخلاء مساحات الأرض بين المستوطنات الإسرائيلية القائمة، على أن تظل الكتل الاستيطانية تحت سيطرة إسرائيل مع انضمام المستوطنات المنعزلة إليها لتتكون مساحة من الكتل الاستيطانية الممتدة دون انقطاع بينها.

ثالثًا: السيادة على القدس ستكون مشتركة، بين إسرائيل وفلسطين تحت مسماها المستحدث “فلسطين الجديدة”، على أن ينتقل السكان العرب ليصبحوا سكانًا في الدولة الجديدة، مع حظر شراء المنازل العربية على اليهود، أو المنازل اليهودية على العرب، وبقاء الأماكن المقدسة على وضعها الحالي دون تغيير.

رابعًا: فيما يخص غزة، ورد في الوثيقة “المُسربة” ادعاء أن الصفقة تتضمن أن تمنح مصر أراض في سيناء للفلسطينيين، لإقامة مطار ومصانع ومناطق للتبادل التجاري، دون السماح لهم بالسكنى فيها، وتكون هذه المناطق مؤدية إلى قطاع غزة الذي سيرتبط بالضفة الغربية من خلال تدشين طريق أوتستراد، وهذا الطريق يتفرع إلى طريقين ليربط “فلسطين الجديدة” بالأردن، بالإضافة إلى أنفاق تنقل المياه المعالجة بين الجهتين، مع إقامة ميناء بحري جديد لقطاع غزة على البحر المتوسط، لتُفتح حدود القطاع أمام خطوط التجارة العالمية من خلال المعابر الإسرائيلية والمصرية والميناء البحري، وأهم نقطة في هذا البند هو أن حماس لن تكون مسيطرة على قطاع غزة، بل عليها أن تُفكك أسلحتها بالكامل، وتنضم تحت لواء الدولة الفلسطينية الجديدة.

خامسًا: غور الأردن سيظل تحت السيطرة الإسرائيلية.

سادسًا: الدول المؤيدة الراعية: زعمت الوثيقة أنه بجانب الولايات المتحدة قد أظهرت دول من الاتحاد الأوربي دعمها للصفقة، إضافة إلى دول أخرى، وهذا الدعم سيكون سياسيًا واقتصاديًا.

سابعًا: تقسيم الأعباء المالية: جاء في الوثيقة أن الولايات المتحدة ستتكفل بـ 20% من المساهمات المالية لتنفيذ بنود الصفقة، فيما تتكفل دول الاتحاد الأوربي بـ 10%، على أن يتم رصد 30 مليار دولار على مدى الخمس سنوات الأولى لصالح مشاريع اقتصادية لدولة “فلسطين الجديدة”.

ثامنًا: يحظر على دولة “فلسطين الجدية” تكوين جيش أو حيازة سلاح عسكري، باستثناء السلاح الشُرطي الذي سيطون وحده مُرخصًا لجهاز الشرطة الفلسطينية، أي تكون الدولة الجديدة منزوعة السلاح، على أن تتكفل إسرائيل بـ”الدفاع” عنها من أي “عدوان خارجي” مقابل ثمن تتلقاه إسرائيل “الحامية”.

تاسعًا: تنص الصفقة، وفقًا لما نشرته الصحيفة الإسرائيلية، على أن مراحل التنفيذ تقضي أولا بأن تسلم حماس سلاحها للسلطات المصرية وتعلن تفكيك نفسها مع بداية الصفقة، على أن يلي ذلك فتح حدود غزة ومعابرها للتجارة العالمية، وكذلك يُفتح سوق غزة مع الضفة الغربية.

وبعد عام واحد، كفترة انتقالية، تُقام انتخابات عامة لدولة “فلسطين الجديدة” تتيح المشاركة لأي مواطن فلسطيني.

بعد عام آخر، أي بعد عام على الانتخابات، يُطلق سراح الأسرى تدريجيًا على مدار ثلاث سنوات، وفي خلال خمسة أعوام يتم تدشين الميناء البحري والجوي لدولة “فلسطين الجديدة” التي سيستخدم مواطنوها مطارات إسرائيل وموانيها إلى حين يتم بناء منشآتهم.

في تصريحاته السابقة، قال جاريد كوشنر إن “كلا الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، سيضطران لتقديم تنازلات”، وبالنسبة للجانب الفلسطيني، وبفرض صحة بنود الصفقة التي نشرتها يسرائيل هايوم، فإن التنازلات التي يجب على الفلسطينيين تقديمها تصل إلى حد التضحية بالقضية الفلسطينية برمتها.

الجانب الفلسطيني

الصفقة أغفلت مسائل أساسية في القضية الفلسطينية، على رأسها مسألة اللاجئين، وأعطت الضوء الأخضر لاستمرار الاستيطان الإسرائيلي والاحتلال، فيما دفعت لتكوين “دولة فلسطينية” منزوعة السلاح والسيادة، ترتجي من إسرائيل أن تكون “المدافع عنها” بينما هي دولة الاحتلال التي تقتلها.

من الواضح أن العلاقة بين السلطة الفلسطينية ممثلة في إدارة محمود عباس تحديدًا وبين الولايات المتحدة في مرحلة من الشرخ الكبير، حتى أصبح أبو مازن منبوذًا من الإدارة الأمريكية الترامبية، رغم أنه لسنوات، ومنذ اتفاق أوسلو تحديدا، كان يُعول عليه باعتباره قائد المعسكر الفلسطيني البراجماتي.

لكن أبومازن في وضعه الحالي، الآيل للسقوط والانزواء الأخير، ليس مستعدًا في حالته هذه إلى تقديم تنازلات كبيرة، هي الأضخم ربما في تاريخه السياسي، لأن الرئيس الفلسطيني المنتهية ولايته لم يعد لديه ما يخسره أصلا، لأنه في مرحلة الغروب الأخير، رئيس شبه معزول، منتهية ولايته منذ سنوات، لا يبسط سيطرته على كامل سلطته، يعاني ترهلًا سياسيًا وتأخرًا صحيًا، كما تعاني سلطته انقباضًا اقتصاديًا كبيرًا إضافة إلى القيود السياسية.

ليس غريبًا إذًا أن تعلن السلطة الفلسطينية على لسان وزيرها للتنمية الاجتماعية أحمد مجدلاني عن مقاطعتها للمؤتمر الاقتصادي الذي ستنظمه الولايات المتحدة في البحرين خلال الشهر المقبل، وهو المؤتمر الذي من المزمع أن تقام فيه ورشة عمل بعنوان “من السلام إلى الازدهار” لتشجيع الشق الاقتصادي من صفقة القرن، كما قال نبيل أبو ردينة، المتحدث باسم السلطة الفلسطينية، إن “أي خطة اقتصادية بلا آفاق سياسية لن تؤدي إلى شيء”.

السلطة الفلسطينية على شفا السقوط الأخير، وهذا سبب أدعى ليجعلها غير مدفوعة للموافقة على الصفقة، فلم يعد لأبي مازن ورفاقه ما يخسرونه أكثر، لذا فإن الرهان الأمريكي على تمرير الصفقة هكذا بفرضها على الفلسطينيين هو رهان شبه خاسر.

كما أن الانقسام الفلسطيني، الذي أضر بالقضية بطبيعة الحال، من شأنه أن يجعل الأطراف الفلسطينية المتناحرة ترفض أن تندمج معا هكذا بكل بساطة، فلا حماس مستعدة لتسليم سلاحها والتخلي عن حكمها الذاتي في غزة، ولا فتح المترهلة تستطيع أن تبسط يدها على شئون الدولة “الهلامية” الجديدة، كلا الطرفين غير مستعدان للتصالح، فكيف يكونا مستعدين للاندماج الكامل وتسليم كيانيهما لإسرائيل؟!

الجانب المصري

مصر تحديدًا تسعى لإبعاد نفسها عن شبهات هذه الصفقة، فليس ثمة ضغط يمكن أن يجعل المصريين منفتحين على اقتراح بسحب جزء من أراضيهم، كما أن مصر لا تملك فائضًا ماديًا تقدمه لصالح تنفيذ بنود اقتصادية في مثل هذه الصفقة.

إسرائيل: رفض غير مباشر

على الجانب الإسرائيلي، ورغم الدعم الأمريكي غير المحدود لبنيامين نتنياهو، فإن الموافقة على بنود صفقة القرن ليست بهذه السهولة، صحيح أن عطايا ترامب لنتنياهو، متمثلة في القدس والجولان والدعم السياسي، قد ساعدت الملك بيبي ووطدت سيطرة اليمين على السياسة الإسرائيلية، لكن رئيس الوزراء المكلف يجد صعوبة بالغة في تشكيل حكومته الجديدة، وكان يرغب في إهداء الضفة الغربية لائتلافه اليميني المتشدد، لا أن يُفلتها لصالح دولة “فلسطين الجديدة”.

نتنياهو واليمين، والحريديم المسيطرون بقوة على المشهد السياسي الحالي، قد تجاوزوا جميعًا مرحلة الاعتراف بدولة فلسطينية، حالية أو جديدة، وليس من السهولة أن يقنع حلفائه بوجوب الاعتراف بفلسطين.

الجوانب الاقتصادية التي تزعم الصفقة أنها تعود بفوائد على دولة “فلسطين الجديدة” تثير حفيظة الإسرائيليين الذين يرون فيها “مغالاة” في دعم دولة جديدة لا تلقى اعترافا إسرائيليا في الأساس، فاليمين الإسرائيلي في أقوى مراحله الآن، منذ الصعود السياسي في انتخابات الكنيست التاسعة عام 1977، لا يمكن إرغامه على إبعاد يد الاحتلال عن الضفة الغربية، ناهيك عن منح امتيازات اقتصادية للفلسطينيين.

سابقة شارون

رغم أن خطة فك الارتباط عن غزة التي أقرها أريئيل شارون أثمرت فيما بعد عن الوضع الفلسطيني المُشوه الحالي، انقسام داخلي وحصار خانق، لكن شارون ومن سار على دربه، تسيبي ليفني مثلا، دفعوا ثمن الغضب اليميني، لأن خطة فك الارتباط اعتبرت بمثابة تخل عن أرض تحت سيطرة إسرائيل، ولا يود نتنياهو الآن أن يكون رئيس وزراء يميني آخر يتخلى عن أرض تحتلها دولته لصالح دولة فلسطينية.

وليس اليمين فقط، بل إن اليسار الإسرائيلي المهزوم المثير للشفقة لا يغامر أحد من طرفه ويعلن موافقته الصريحة على التخلي عن أراضي الضفة الغربية لصالح دولة فلسطينية جديدة، فالجميع يرفع شعار “فات أوان الدولة الفلسطينية”، أما من جانبه، فإن يوسي بيلين، الرئيس السابق لحزب ميرتس، كتب مؤخرًا عن الصفقة.

واقترح منح منطقة شمال الضفة للدولة الفلسطينية، من أجل استثمارها في النهوض الاقتصادي، كخطوة كفيلة بأن تمنح إسرائيل نقاطًا قبل التدشين الرسمي لصفقة القرن، ومن المعروف أن شمال الضفة كان فيما سبق يحوي أربع مستوطنات إسرائيلية هدمها شارون سابقا في إطار خطته الأحادية لفك الارتباط عن غزة، ودفع الثمن غاليا فيما بعد، حيث ظل حتى موته محط هجوم اليمين الإسرائيلي المتشدد ، وحتى الآن تدفع أصوات يمينية، على رأسها رئيس الكنيست  يولي إدلشطاين، نحو إعادة بناء المستوطنات الأربعة مجددا.

 وأما يوسي بيلين فيتحدث من منطلق كونه سياسي سابق ورجل أعمال حالي، أي أنه لا يملك قرارا سياسيا، ولا يتحرك لأجل اجتذاب أصوات انتخابية، في حين أن نتنياهو يواجه دشمة متحجرة من قوى اليمين التي تبتزه لتدخل في ائتلاف حكومي معه، يسمح له بالتملص من عواقب اتهامات الفساد التي تلاحقه، وتدعمه ليصبح “رئيس وزراء يمنيًا تاريخيًا”.

من المعقول أن نتنياهو يرى في صفقة القرن فرصة لادعاء جديته في المفاوضات، ومع تحفظه على بنود فيها، فإنه كذلك يأمل بأن يرفض محمود عباس الصفقة برمتها، ليستمر نتنياهو مرددا لنغمة “لا يوجد شريك فلسطيني”، وكذلك ليأمل أن تثمر العقوبات الأمريكية المنتظرة عن مزيد من المعاناة على الفلسطينيين.

لُب المسألة هي أن إسرائيل تروج بأن الفلسطينيين والعرب لا يعترفون بالوجود الإسرائيلي على الإطلاق، بل ويرغبون في محو إسرائيل تماما، ولذلك سيدفع الفلسطينيون نحو رفض صفقة القرن لأجل هذه الرغبة في المقام الأول، بينما الدول العربية قدمت عام 2002 مبادرة جماعية للتطبيع مع إسرائيل أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز، وكان الهدف منها إنشاء دولة فلسطينية معترف بها على حدود 1967، وعودة اللاجئين وانسحاب إسرائيل من هضبة الجولان مقابل اعتراف بإسرائيل وتطبيع للعلاقات معها.

ربما تفصح الأيام المقبلة عما تؤول إليه الصفقة، ومدى صحة ما نشرته يسرائيل هايوم، لكن يمكن أيضا أن تنضم صفقة القرن هذه إلى خطط سابقة انتهت إلى لا شيء، لأنه في الوقت الذي ازداد زخم الحديث عن الصفقة علا صوت التوتر في منطقة الخليج العربي، والتفتت الولايات المتحدة نحو إيران بمزيد من التهديد والعقوبات، ونتنياهو بالطبع يعطي أولوية حالية لكبح التمدد الإيراني في الشرق الأوسط، إضافة إلى نقطة أخرى لا تقل أهمية.

وهي أن التوتر بين الولايات المتحدة والصين يمكن أن يؤثر على مسار صفقة القرن، لأن أحد بنود هذه الصفقة يشير إلى اضطلاع شركة صينية متخصصة بإقامة الجسر المعلق بين الضفة الغربية وغزة ليربط دولة “فلسطين الجديدة” بينما تضغط إدارة ترامب حاليا لتقييد الوحش الصيني الاقتصادي، حتى إن ثمة توترات بين إدارة ترامب وحكومة نتنياهو التي تنفتح اقتصاديا مؤخرا على الصين.

الجميع ينتظر، ووراء الأكمة ما وراءها، خصوصا مع تشابك خيوط اللعبة فجأة، مساعي نتنياهو لتشكيل حكومة يمينية متشددة مدفوعة بنهم لالتهام الأرض الفلسطينية، صراع اقتصادي أمريكي صيني، توتر في الخليج العربي، البداية في مؤتمر يونيو بالبحرين، والنهاية لم تتضح ملامحها بعد.

ربما يعجبك أيضا