في «يوم الغفران».. لم تكن هناك سوى خطوة وتنتهي إسرائيل تماما

نرمين توفيق

رؤية
بقلم – نرمين توفيق

“المصريون بالنسبة لنا لا يستطيعون فعل شيء، وهم عاجزون عن الدخول في أي حرب، وحتى إذا دخلوا مثل هذه الحرب فإنهم سوف يُسحقون فيها بصورة لن يقوموا بعدها مرة أخرى”… هكذا كان يتشدق دوما موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلي بكل صلف مستهينا بقدرات الجيش المصري، إلا أن هذا الغرور انتهى تماما مع بداية ساعة الصفر في الثانية ظهرا يوم العاشر من رمضان – السادس من أكتوبر 1973.

في صباح هذا اليوم كان أغلبية الإسرائيليين، وفقا لما ذكره إيلي زعيرا رئيس المخابرات الإسرائيلية في ذلك الوقت في كتابه “حرب يوم الغفران، قد قصدوا المعابد أو كانوا يتهيأون للذهاب إليها احتفالا بـ“يوم كبيور” أو “عيد الغفران”، والذي يعد من الأعياد اليهودية الهامة؛ وذلك للصلاة والدعاء لله أن يغفر لهم خطاياهم التي وقعوا فيها طوال العام كما هم معتادون… ويشهد هذا اليوم في إسرائيل شللا كاملا للحركة فليس هناك أي محل يفتح أبوابه، حتى الشوارع تخلو من السيارات، وليت هناك إذاعة ولا تليفزيون.

لكن في هذا العام كان الوضع مختلفا بعد المعلومات التي تسربت إلى القيادة الإسرائيلية بقرب شن الحرب فزادت حركة السيارات، وأخذ المندوبون يبلغون رؤساء الكتائب والفصائل بالتطورات فيسرع هؤلاء لتعبئة رجالهم، وذهبت العربات للبحث عن رجال الاحتياط بثيابهم العسكرية، وفي المعابد بدأت تعبئة الرجال الذين كانوا على وشك الصلاة.

وأخذت الشائعات تنتقل نظرا لأن الإذاعة لا تعمل وكان أثر قلة الأنباء قاسيا، وراح البعض ينظف المخابئ، لكن جموع السكان ظلت مقتنعة بأن الأمر لا يعدو أكثر من كونه تعبئة مفاجئة ليوم أو يومين، فلما انطلقت صفارات الإنذار أخذت اسرائيل كلها على غرة وساد الذعر كافة الأنحاء.

بعد ذلك حدثت عمليات إخلاء المدنيين في الساعات الأولى من الحرب، وكان الموقف في الجولان مختلف عنه في قناة السويس إذ كانت المستعمرات الإسرائيلية على بعد كيلومترات قليلة من خط النار ولم يستطيعوا إخلاءها إلا بعد أن بدأ القتال بالفعل، وتحت نيران المدفعية السورية.

وفي نهاية اليوم الأول خيمت ظلال النكسة على كل إسرائيل حيث انقطعت الكهرباء ولم تتوقف صافرات الإنذار المصاحبة لصوت الطائرات النفاثة، وهرول المدنيون إلى المخابئ وسط ذعر شديدوخوف من الإبادة التامة لدرجة جعلت بنحاس سابير وزير المالية يصرح فيما بعد: “لم تكن هناك سوى خطوة واحدة باقية ثم تباد إسرائيل تماما”، كما ذكر رئيس المخابرات الإسرائيلية فى هذا الوقت إيلي زعيرا أن عدد القتلى الإسرائيليين في حرب “يوم الغفران” تخطى 2000 قتيل وهو عدد كبير ومفزع لكيان صغير كإسرائيل.

ولم تكن الحرب مفاجئة بصورة كاملة لتل أبيب كما يعتقد الكثير منا، فقد تلقى موشي ديان اتصالا هاتفيا في صباح يوم السبت السادس من أكتوبر في الرابعة صباحا أبلغه محدثه أنه تأكد أن الحرب على الأبواب، وأن مصر وسوريا تنويان القيام اليوم -يوم عيد الغفران- في السادسة مساء بالهجوم، وذلك إثر ورود معلومات مؤكدة عن ترحيل عائلات المستشارين السوفييت من مصر وسوريا على وجه السرعة وبدون سبب معروف، وأن هناك تعزيزات إضافية للقوات المصرية والسورية على طول الحدود.

 لذا اجتمع برئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير، وبالجنرال أليعازر رئيس الأركان في القيادة العامة، ومدير المخابرات العسكرية إيلي زعيرا، وأعلن أليعازر أن سلاح الطيران في حالة تأهب منذ الأمس، وأنه قادر على شن هجوم وقائي على الجبهتين، واقترح رئيس الأركان التعبئة العامة فورا، إلا أن موشي ديان رفض هذا الاقتراح، ورجّح ضرورة أن يكون العرب هم الذين يفتحون النار ويبدأون الحرب، وأيدت مائير موقف موشي ديان، وتم الاكتفاء بالتعبئة الجزئية السرية للقوات.

وترجع أسباب رفض ديان التعبئة العامة لأنه كان يرى أن القوات الموجودة على خطوط الجبهتين قادرة على تلقي الصدمة في حالة شن الطرف الأخر لأي هجوم إلى أن تصل قوات الاحتياط، كما خشي من أن الدول الصديقة لإسرائيل كالولايات المتحدة لن تؤيد هذا الفعل وستلقي تبعية الحرب على إسرائيل. 

وأعقب ذلك الاجتماع لقاء رئيسة الوزاء الإسرائيلية بالسفير الأمريكي في إسرائيل كينيث كيتنج، وطلبت منه إبلاغ الرئيس نيكسون للاتصال بالمسؤولين المصريين والسوريين لإثنائهم عن أي هجوم محتمل، وبالفعل أبلغ السفير وزير الخارجية الأمريكي هنري كسينجر بما دار في حديثه مع جولدا مائير، فاستدعى كسينجير وزير خارجية مصر آنذاك محمد حسن الزيات الذي ادعى أنه لا يعلم شيئا عن النوايا المنسوبة لحكومته حول بدء أعمال هجومية ضد إسرائيل.

ويرى البعض أن إسرائيل بطلبها هذا التدخل ضاعفت من أثر الكارثة، لأنها نقلت للطرف العربي أنها تعلم ساعة الصفر التي تم تحديدها في السادسة مساء، وربما دفع هذا الأمر القوات المصرية والسورية إلى تقديم ساعة الصفر للثانية بعد الظهر بدلا من السادسة مساء، ورغم المعلومات التي تسربت فقد طالت الصدمة والمفاجأة جميع وحدات حماية خط برليف مع بداية الحرب.

اختيار أركان الحرب المصرية ليوم السادس من أكتوبر بالتحديد لم يكن يتوقف فقط على كونه يوم “عيد الغفران”، وإنما أيضا لأن القمر في الليلة التالية للهجوم يكون بدرا وهذا يساعد قوات الهجوم في الساعات الحرجة، ولأن سرعة التيارات في القناة قد درست بعناية لإمكان اختيار أفضل وقت للعبور، مما يعكس التخطيط المحكم من القيادة العسكرية لتلك الحرب، والتي اكتملت ببسالة قتالية رائعة للجندي المصري جعلت العدو يعترف بها، حيث أشار شهود عيان من الجانب الإسرائيلي إلى أن المقاتلين المصريين كانوا يلقون بأنفسهم أمام الدبابات الإسرائيلية ويتعلقون بها ثم يموتون وذلك لتعطيل مسير الدبابة.

ومن ثم فإن التاريخ المصري سيظل شاهدا على “ملحمة العبور” ولا يمكنه أن ينسى هذا اليوم البطولي على عكس ما يفعل البعض من الذين لا يقدرون قيمة تراب هذا الوطن.. فهو ملحمة ستبقى ليس فقط بشهادة الأبطال الذين شاركوا في تلك الحرب ولكن باعتراف العدو الصهيوني نفسه بعد أن لقنهم أصغر جندي في الجيش المصري درسا لم ولن ينسوه أبدا.

ربما يعجبك أيضا