“فتوات المحروسة”.. من فهلوة ولاد الأصول إلى شراسة النبوت

هدى اسماعيل

هدى إسماعيل

يروي “الجبرتي” في تاريخه أن عمال “البرديسي” خرجوا ذات يوم كعادتهم لجمع الإتاوات، وعندما بلغوا درب “مصطفى” قرب باب الشعرية، خرج نساء الحي وانهلن عليهم بالعصي والمكانس، وسرن في مظاهرة حاشدة هتفن فيها “إيش تاخد من تفليسي يا برديسي”.

يتجمع الرجال وقد دبت الحماسة في قلوبهم، ويذهبون إلى بيت القاضي، ويطلبون منه أن يمنع “البرديسي” من جمع إتاوات جديدة من الشعب، ويمتثل “البرديسي” للأمر ويكف رجاله عن الشعب. 

وفي موضع آخر يسرد “الجبرتي” أن الفرنسيين عندما دخلوا مصر، وفر المماليك، لم يتصد لقوات الحملة إلا الفتوات بـ”النبابيت” والعصي، حتى إن نابليون ضاف بهم ذرعًا، وسماهم “الحشاشين البطالين” ، وحذر الناس منهم.

“فتوة”، كانت قديما إشارة للرجولة والقوة والعدل، أما الآن فقد أصبحت هذه الكلمة مرادفة لكلمة “بلطجي” أى خارج عن القانون، “الفتوة” تعنى فى المعاجم العربية الشباب بين طوري المراهقة والرجولة، أما في المعجم الوسيط فقد ترادفت معنى هذه الكلمة بمفاهيم الرجولة والشجاعة والإقدام، وعلى الرغم من كل هذه الأدلة إلا أن السنوات الطويلة والمتغيرات التي مرت بها مصر كان لها تأثير واضح على تغيير الكثير من المفاهيم وتغير رمز الفتوة بنبوته رمز القوة والشجاعة إلى بلطجي يحمل “سلاح أبيض” .

الفحلة

مظلومة يا افندينا” بهذه العبارة اعترضت عزيزة الفحلة، فتواية المغربلين، موكب “الخديوي عباس” بعد أن تعرضت للظلم على يد المأمور وشكت للحكمدار والمحافظ  فلم يفعلا شيئا، ليأمر “الخديوي عباس” بحل مشكلتها حتى  لا تتعرض موكبه مرة أخرى.

“الفحلة” كانت من أوائل النساء اللواتي مارسن الفتونة في القرن الماضي، ومهدت الطريق لعشرات من النساء الفتوات اللاتي زاحمن الرجال وأحيانا تفوقن عليهم في الضرب بـ”النبوت”.

الفارس حميدو

“عبدالحميد عمر” الشهير بـ”حميدو” فتوة الإسكندرية الذي لقبه الخديوي عباس حلمي الثاني بـ”الفارس”.

في عام 1957 أجرت مجلة “البوليس” حوار مع شقيقه “محمد” جاء فيه: “اشتهر حميدو بجمجمته الصلبة التي كانت “روسية إسكندراني” واحدة منها كفيلة بالقضاء على حياة خصمه فورًا، وكذلك بهيئته التي اختارها لنفسه، فسرواله التركي الأسود وطربوشه المغربي المميز وشاله الأبيض .. كلها تفاصيل جعلت له هيئة خاصة تثير الهيبة في نفوس أهل بحري والسيالة بمجرد مروره بصحبة أتباعه وهم يحملون العصي، ليختبئ الجميع في منازلهم خوفًا ورهبة.

وعن لقب الفارس يقول شقيقه: “عام 1930 وتحديداً في حي بحري في مدينة الإسكندرية في سباق القوارب الذي كان يقام بصفه رسمية سنويًا بين أهل حي السيالة وأهل رأس التين.. وهي السباق الذي كان يحضره الخديوي، في هذا العام قرر حميدو أن يمثل منطقة السيالة، ولأن الخديوي عباس حلمي الثاني كان حاضرًا لفاعليات السباق في هذا اليوم؛ اشتعل الحماس وفاز حميدو بالسباق؛ فألقى له عباس حلمي حفنة من الريالات الفضية مكافأة له على فوزه، لكن حميدو رفض أن يلتقطها من الأرض، تصرف حميدو أغضب الخديوي كثيراً.. فأمر باستدعائه إلى قصره برأس التين، وسأله منازلة أحد خدمه.

وافق “حميدو” دون خوف أو رهبة، وبمجرد بداية الصراع بينه وبين الخادم، ضرب حميدو خصمه برأسه فأفقده الوعي.. ليسقط الخادم على الأرض وينال حميدو رضا الخديوي الذي لقبه في ذلك اليوم بلقب “الفارس” الذي أصبح مقترناً به حتى وفاته في عام 1936.

أشرس فتوة

نشرت مجلة “الهلال” عام 1959 قصة الفتوة “أحمد عرابي” أشهر فتوات المحروسة، قالت فيه: اشتهر حي الحسين بظهور الفتوات الذين يحتلون عرش الفتونة بطرق دموية، في بداية القرن العشرين، وكان أحمد عرابي هو أشهرهم.

“أحمد عرابي” بلا منازع هو أشرس فتوة عرفته المحروسة في تاريخ الفتونة، فسجله مليء بالمعارك الطاحنة التي نتج عنها قتلى وجرحى، إلى جانب هلاك في الأموال والممتلكات.

كان “عرابي” قوي البنية شديد البطش منذ صباه، غليظ القلب، إلا أنه كان رحيمًا بالضعفاء والمهمشين، وكان يسرع لنجدة الفقير والمحتاج.

وكان مقر مقهى “عرابي” مقرًا للقضاء والفصل في المنازعات، وكان الفتوة شديد الولع بالمعارك، ولا يهدأ له بال إلا إذا قاد معركة، حتى إنه استطاع تدمير حي الأزبكية عام 1928 وحكم عليه بأربعة آلاف جنيه غرامة.

قامت بينه وبين “أحمد الأسيوطى” “فتوة القبيصي” عداوة شديدة، سببها أنه أحب امرأة لدرجة العشق فخانته ومالت إلى صاحب مقهى في حى القبيصي، فقرر الانتقام منه.

جمع رجاله وقام بهجمة شرسة على مقهى القبيصى الذي استنجد بالفتوة “الأسيوطي” الذي نجد صاحب المقهى، بعد أن اصطدم بالفتوة أحمد عرابى مما اعتبر عرابى ذلك إهانة له.

 وفي عام 1929 كان اللقاء المميت  حيث جمع “عرابي” رجاله وأصدقاءه مسلحين بالسيوف والعصى والخناجر والسواطير، وانقضوا على حي القبيصى فدمروه، وتدخل البوليس وقبض على عرابى وحوكم أمام محكمة الجنايات بالسجن خمس سنوات.

فتواية

في كتاب “الفتوات وتاريخ معاركهم الدامية” لـ” صديق عبدالفتاح” ، سجل في كتابه أسماء كثيرة من الفتوات في القاهرة والإسكندرية، أمثال “حميدو – إبراهيم كروم – القرد”  وغيرهم من أصحاب الصيت.

ويقف مع الفتوات كتفا بكتف نساء فتوات أمثال “زكية المفترية – عزيزة الفحلة – سكسكة – المعلمة توحة – أم حسن”، وهؤلاء النسوة بحسب ما يورد “عبد الفتاح” ضربن أروع الأمثلة في الانتصار للمظلوم ضد الظالم واستحقت كل واحدة منهن عن جدارة لقب “فتواية”.

مذكرات فتوة

يقول  الناقد “محمود عبدالشكور” عن “مذكرات فتوة” تأليف المعلم “يوسف أبو حجاج” : “الفتوة، كما عبّر عنه صاحب المذكرات، شخص بسيط وفهلوي، يعرف الواجب والأصول، ويدخل المعارك إكرامًا لأصدقائه، أو حتى من باب المزاج، في السجن يمكنه أن يتصرف، وأن يكسب ثقة العساكر والضباط، ولكنه أيضا ابن حظ وأُنس، عنده حق نجيب محفوظ عندما قال إن الفتوة في الواقع كانت حياته فارغة ومكررة، خناقات ومعارك تشبه بعضها، ولكنه يمكن أن يكون رمزًا لأشياء كثيرة”.

 ويضيف: “يوسف أبو الحجاج فى سجالاته الظريفة مع القضاة، وفي تعليقاته التي توقعنا من الضحك، وفي آرائه عن الصداقة والحب والنساء، يعبر ببلاغة عن الثقافة الشعبية، التي ما زالت موجودة ومؤثرة، وهي ثقافة مستقلة وموازية للثقافة الرسمية، منبعها الأساسي تاريخ طويل وقديم، وتجارب وخبرات إنسانية، وأمثال ومرويات بل خرافات، وفلسفة فيها تزاوج عجيب بين الدين والدنيا، وبين الحزن والبهجة”.

وأشار إلى أن الفتونة كانت ترجمة لكل ذلك، والدولة اعتمدت عليها في حالات كثيرة، أما طريقة المعلم يوسف في الحكي، فلا شك عندي أنها كانت مرجعا أساسيا في رسم ملامح أولاد البلد في الدراما المصرية، بل وملامح شخصية المعلم بكل تنويعاتها، سواء بأداء محمد عبدالقدوس، وعبدالعزيز خليل، أو بأداء عبدالفتاح القصري، ومحمد رضا”.

لعل هؤلاء قرأوا أو سمعوا عن المذكرات، أو ربما يكون المعلم يوسف قد لخّص بشخصيته نموذج الفتوة والمعلم، فلم يعد ممكنًا أن نقرأ مذكراته، من دون أن نتذكر كل هؤلاء الممثلين المعلمين.

الحرافيش

“اللهم صن لي قوتي وزدني منها لأجعلها في خدمة عبادك الصالحين”، هذا هو الدعاء الذي أنهى به الراحل “نجيب محفوظ” روايته الأشهر “الحرافيش”، والذي كان يردده بطل روايته “عاشور الناجي”، قدم محفوظ وصفا دقيقا لهذه الشخصية التي كان لها تواجد كبير في مصر لفترات طويلة واستطاعت أن تحتل مساحة من التاريخ، ليس فقط لكونها كثيرة بل لأنها استطاعت أن تلعب دورا مهما في كثير من الأماكن الشعبية في القاهرة فقد كانت الحماية للفقراء من استبداد الأغنياء.

ربما يعجبك أيضا