الزار.. غناء على مسرح العفاريت

أماني ربيع

أماني ربيع – هدى إسماعيل 

رقصات هيستيرية نقرات الدفوف تضرب قلبك في قوة، صرخات مشحونة بالوجع، بالقلق، بالنشوى، وعي غائب، موسيقى وحشية تعيدك إلى بدائيتك الأولى، تغني معها دون أن تدرك معنى ما تقول، تصرخ، تدور في حلقات، الأصوات تتعالى في كريشندو حتى تصل إلى الذروة، لا بد من الدم لاستكمال الطقوس، ثم الانهيار والإغماء وهكذا، تذهب عن جسدك الأرواح الشريرة إلى غير رجعة.

ربما كانت هذه هي الصورة الكلاسيكية الأكثر شهرة، عن “الزار”، تلك الكلمة سيئة السمعة، التي عندما تسمعها تتذكر فورا أجواء الشعوذة والجن.

ذهبنا إلى مركز “مكان” الثقافي، محملين بأفكارنا النمطية عن الزار، لنلتقي بـ صاحبة واحدة من أشهر فرق الزار في مصر.. “مديحة مزاهر”.

شعرت بالخيبة أول الأمر، لم يكن هذا ما توقعت، لا يوحي مظهر المركز من الخارج بأي كاريزما خاصة، كانت عضوات الفرقة يجلسن في الخارج يلتهمن الغذاء، ويتبادلن الضحكات مع أكواب الشاي، كلهن سمراوات، تخطين الخمسين أو أكثر، حالة من الألفة مع وابل من الدعابات.

وقفنا في الخارج قليلا، ثم استأذنا في دخول المكان، إضاءة خافتة، عشرات الصور اصطفت على جانبي الردهة الداخلية الضيقة، جدار بأكمله احتله مجموعة من المداحين والمطربين السودانيين بالجلاليب البيضاء والعمة الضخمة، بينما الجانب الآخر، كانت النسوة متشحات بالطرح السوداء يقفن في فخر.

دخلنا قاعة الحفلات في المركز، “يا إلهي”، تبدو أشبه بأطلال مهدمة، قد يقصدها الباحثين عن المزاج أو الكيف، جدران بالية تآكلت بفعل الرطوبة، مذياع قديم من الخمسينيات، وتلفاز، بعض الوسائد اصطفت على كليم صوفي في جلسة شرقية الطابع، شيء واحد يذكرك بأن هذا مكانا لحفل موسيقي مع الطبول المتناثرة وبعض الآلات الأخرى التي لا أعرفها.

جلست في ملل بانتظار الريسة “مزاهر”، غير آملة في الكثير، جاءتنا ترفل في عباءة سوداء، امرأة سمراء كطمي النيل، ضحكتها بيضاء كجلابيب السودانيين في خليط منسجم، يعود لأصولها المصرية السودانية، ورغم صوتها القوي هناك “حنية ما” تدغدغ أذنيك وأنت تسمعها، تستقبلك في حفاوة وكأنك صديق قديم، تبدد فورا شعورك بالنفور الذي كنت تشعر به وأنت على موعد مع كوديا زار.

تراث أفريقي

قضيت الوقت في القراءة عن الزار، وجدته طقسًا قديمًا قدم الإنسانية، أصوله أفريقية، فطالما تواصلت القبائل الأفريقية مع الآلهة من خلال طقوس احتفالية تحولت مع الوقت إلى فن وأداء له قواعد، ولن تخطئ أذنك النكهة الأفريقية في إيقاعات الزار التي تحولت من طقس لطرد الأرواح الشريرة، إلى لوحة فولكولورية احتفالية.

ولمعنى كلمة زار تفسيران لغويان، الأول أنها  كلمة عربية مشتقة من الزيارة، بمعنى زيارة الجن للآدميين في مواعيد معينة من السنة، وهناك من يرجع أصولها إلى اللغة الأماهيرية بإثيوبيا والتي تعني فيها “زائر النحس”.

يتميز طقس الزار بكثرة الرموز التعبيرية، بداية من الأداء الحركي للسيدات الذي يؤدي وظيفة نفسية مهمة، وهي تفريغ الطاقة السلبية واستبدالها بطاقة إيجابية، وصولاً إلى ألوان الملابس والحُلي والإيقاعات والأضحية والأغاني التي تحمل الكثير من الدلالات النفسية والاجتماعية.

عبر الكثير من أفلام السينما، آمن الناس أن الزار طقس مصري خالص، كما أن حفلات الزار تنتشر في كثير من القرى والمناطق الشعبية بالقاهرة والصعيد، تقودها عادة امرأة سمراء تجيد ضرب الدفوف والرقص والتجاوب مع الأرتام، هي الريسة أو الكودية، التي تستقدمها العائلات اعتقادا في قدرة الزار على طرد الجن من الجسد.

 تجلس المريضة على كرسي ويذبح على رأسها ديكًا، وتبدأ الكودية في تلاوة أناشيد معينة، ثم يبدأ ضرب الدفوف والطبول على الإيقاع، مع رقص عنيف، وبخور ينتهي بسقوط المريضة على الأرض..

الريسة

“سلامو عليكو”

 وصلت الريسة “مزاهر”، ينقطع حبل أفكاري، أرتبك قليلا، بينما أرتب أشيائي، وألتفت إليها، امرأة سمراء، وجهها أسمر كطمي النيل، وضحكتها بيضاء كجلابيب السودانيين في خليط منسجم، يعود لأصولها المصرية السودانية، تستقبلك بحفاوة وكأنك صديق قديم، امرأة بسيطة تبدد فورا شعورك بالنفور عندما تعلم أنك على موعد مع كوديا زار.

أول سؤال خطر لي بعد رؤيتها، خاصة وأنها لم تبد لي امرأة مخيفة أو خارقة للطبيعة، لم أر نارًا تخرج من عينيها، لماذا الزار يا ست مديحة، سألناها؟ تبتسم وتقول بحنية: “غية”، وتسترسل”غناء الزار موهبة تحتاج إلى صبر، وأذن تعرف الإيقاع، لأنه مليء بالإيقاعات المختلفة، كثيرون حاولوا التعلم لكنهم لم يستطيعوا مجاراة الإيقاع، لا يصلح معها تعليم ولا ورقة وقلم، لهذا الزار مهنة تنادي صاحبها، فتركت المدرسة، وكنت أحضر مع أمي جميع حفلاتها حتى شربت الفن، لأني حبيته”.

تربت “مزاهر” على أنغام وإيقاعات الزار منذ نعومة أظفارها، وبدأت في احترافه كمهنة وعمرها 11 سنة، ماذا تعرفين عن تاريخ الزار إذا؟ تقول “كل ما أعرفه أنه فن قديم.. قديم جدا، ورثناه عن جدود جدودنا، من أيام جدي الذي كان يعيش في الحبشة”.

أسلحة “مزاهر” هي صوتها الجهوري الذي لا يخلو من عذوبة، ولم تنل منه السنين، وحركات جسدها المتمايل، مع الدف، والشخشيخة والطنبورة والمنجور والنقرزان، لكن الدف تقول مديحة “هو الآلة الرئيسية، ونقوم بشده على النار قبل كل عرض”.

وإذا كنت تعتقد أن الزار فن “بلدي”، فأنت مخطئ فجمهور “مزاهر” الغفير يأتي إليها من كل بلاد الدنيا، فلن تستغرب كثيرا إذا ما رأيت الازدحام الشديد أمام باب حفلة من حفلاتها، ستجد الكثير من الأجانب والمصريين من الطبقات الراقية، والمتعلمين تعليم عال، يأتون لـ “يتسلطنوا” على أنغام مديحة وفرقتها.

أما عن علاقة فرقة “مزاهر” بالمركز المصري للثقافة والفنون “مكان”، فتعود إلى عام 2012، وإن كانت علاقة مديحة نفسها بالدكتور محمد المغربي صاحب المكان تمتد إلى نحو 15 سنة ساعدها فيها المغربة على تكوين فرقتها المكونة من 4 نساء و6 رجال، باعتبار فن الزار أحد الفنون الشعبية التي قاربت على الاندثار وهو الدور الذي يقوم به المركز في توثيق هذا النوع من الفنون.

وإذا كنت تظن أن الزار أمر سهل فأنت مخطئ، فهو فن معقد كما توضح “مزاهر”:” الزار به 40 مقام، وينقسم لـ 3 أنواع، الزار الصعيدي “المصري”، والزار السوداني “الأفريقي”، وزار مداح النبي “أبو الغيط”، الذي يعود إلى سيدي حسن أبو الغيط، ولكل واحد من هذه الأنواع أغنياته، وإيقاعاته المختلفة”.

نسألها وكيف تختارين برنامجك؟ تقول: “أقوم باختيار الأغنيات بشكل عشوائي، وهي كثيرة جدًا، فعدد أغاني الزار غير معلومة، فتراث الزار غير مكتوب نحفظه جيلا بعد جيل، ولم يوثق منه إلا 300 أغنية”.

ومن أقرب الأغنيات إلى قلب “مزاهر” هي أغنية “ماما”، تقول عنها :”هذه الأغنية يمكن لكل واحد أن يفسر معناها كما يحب، “ماما” قد تكون أمك أو بلدك، ومكان أو شخص تحبه، وهناك أغنية “ياورا” وهي كلمة كانت تطلق على باشوات زمان أيام الملكية، نقصد بها إلى “تقل الحبيب” ودلعه على المحبوب”.

تقول:”الأغنيات كثيرة، والبرنامج بيختلف من أسبوع لآخر، أما “الأرتام” والإيقاعات، إحنا بس اللي عارفينها، ومفيش حاجة جدت عليها، هي وصلتنا بهذا الشكل وحفظناها كما هي”.

وتبدأ الفرقة حفلها: “بالصلاة على النبي ومدحه وآل البيت، وتتنوع الفقرات بين الأغاني النوبية القديمة، وعروض موسيقية مع الناي، ورقص على أنغام الإيقاع الصوفي، ثم استراحة شاي، والعودة من جديد”.

فن وسميعة

تشعر الريسة “مزاهر” كما ينادونها بالحزن، لأنه لا توجد أجيال جديدة لتتعلم فن الزار، “أخشى على هذه المهنة من الضياع والموت مع انتهاء أعمار أعضاء الفرقة الذين وصلت أعمار معظمهم إلى الستين، حتى أولادي لم يوافقوا على تعلم الزار، خصوصا أنه فن لا يصلح تعليمه بالورقة والقلم كما قلت، وإنما يتعلم بالإحساس”.

تغضب أيضًا من إطلاق صفة “الشعوذة” على الزار، “للأسف لم يأخذ هذا الفن وضعه في مصر لأن الصحافة والسينما والتلفزيون، ربطوه دائمًا بالدجل والجن والعفاريت، مع أنه موسيقى روحانية يأتيني المستمع الأجنبي لا يفهم شيئا مما أغنيه، لكنه يصل إلى نفس الإحساس بروحه وكيانه، ويسلم عليا بعد ما أخلص وهو يبتسم، فأشعر بالسعادة”.

” ده فن راقي، لا يتذوقه إلا السميعة من ولاد الأصول وأصحاب الودن النضيفة، الموسيقى والغنا بيساعد المستمع في إنه يتخلص من همومه وضغوط الحياة، وعندما يتسارع الإيقاع يصل المستمع لحالة نشوى تشعره بالسمو والزهد”.

سافرت الفرقة إلى دول كثيرة، فرنسا، وألمانيا وسويسرا وبلجيكا والسويد والدنمارك، ولبنان وإيطاليا وغيرها، وفي كل هذه الدول قوبل الزار بكم حب وترحاب، ونالت العديد من الجوائز خلال الكثير من المهرجانات التي مثلت فيها مصر، تقول :”الحمد لله مفيش بلد زرتها إلا وسبنا فيها علامة”.

تقول مزاهر “رغم وجود العديد من الأنواع من الزار، إلا إن أحلى ريتم هو الرتم المصري، الذي يفضله السميعة”.

وعن ارتباط المهنة دائما بالنساء تقول، “المهنة للنساء والرجال، لكن الرجال يفضلون مدح النبي”.

وهناك طلبات كثير لتعلم زاهر الزار، “هناك ورش في الهند وغيرها، لكن المشكلة هي أنهم يتعلمونها بصعوبة، المهنة محتاجة مصري يقدر يشربها، في بلاد برة متعودين على النوتة والورقة والقلم، لكن “الزار” مفيهوش مذاكرة، لأني ممكن ببساطة أغير رتم وأنا شغالة، لكن وأنا عارفة بعمل إيه”.

وعن شعورها بعد كل ليلة زار تقول :”أنا بحب شغلي جدا، وبكون مبسوطة وأنا بغني وبعمل الحاجة اللي بحسها، وبتسلطن من تجاوب الناس معايا”.

لكن للأسف هي مهنة ليس لها مستقبل، “لما بنكبر ونقع، بنقعد في البيت ومحدش بيفتكرنا، وأدينا عايشين يوم عسل ويوم بصل واللي يرضى بالعسل لازم يدوق البصل”.

السكر الحلال

تركتنا الريسة مزاهر، لتستعد من أجل وصلتها، لقد وقعت في حب هذه المرأة هذا مؤكد، ولكني لم أقتنع بالأمر بعد، فن!.

 دقت الساعة الثامنة، القاعة الخالية امتلأت عن آخرها، طلاب جامعة، سيدات أربعينيات، مسنات، أجانب، الإضاءة تصبح خافتة أكثر، بحيث يجلس الحضور في الظلام، بينما الضوء كله مسلط على “مزاهر” وفرقتها، يبدو الأمر وكأنك جالس أمام شاشة سينما مجسمة.

هذا الجو الفاتن المشحون بالترقب، هدوء، مع فلاشات الكاميرا، لمن يستعدون لتصوير اللحظات القادمة، يبدأ العرض.

يبدأ الاستفتاح، بالصلاة على النبي وآل البيت، وصلة مديح يصدح بها رجلا في جلباب شعبي، حالة من السكر والانتشاء، كنت مشتتة بين مراقبة أداء الفكرة، والتفرس في وجوه الحضور، يبدو هائمين تماما مع الآداء، حتى الأجانب، رغم أنهم لا يفهمون شيئا، إلا أن دموع التأثر تغرق وجوههم.

حالة من السكر الحلال، على أنغام الناي والرق، بينما ضربات الدفوف تنتشر على استحياء تحت يدي أربعة نساء، البداية هادئة حانية، ثم تباغتك بـ “الزار المصري”، تقف الريسة مزاهر في المقدمة مثل مايسترو مخضرم وبحركات جسدها تقود، وبحنجرتها تشاغل روحك وتذيبها، وتضحكها، وجهها دائما مبتسم، يرتفع الإيقاع في حماس، ويبدأ الصخب.

ساعتان من المتعة والدفئ، تذوب فيها الفوارق بين الأشخاص أيا كانت ديانتهم ثافتهم، أو وضعهم الاجتماعي هذه المرأة السمراء الجاهلة تعلم قلوبهم الفرح، تهبهم السعادة ولو للحظات قليلة، يتفرقون بعدها محملين بالذكرى، بينما تجلس هي في إرهاق وعلى وجهها ابتسامة متعبة لكنها سعيدة، ننظر لها في إعجاب، فتقول :”مش بقولك غية”.
   

ربما يعجبك أيضا