الهند وجدت نفسها دولة فقيرة ذات عدد سكان يقارب سدس العالم، فقررت أن تجعل التعليم هو بوابتها ومستقبلها للقضاء على فقرها.
كتب| أحمد بدر
المتابع لكيفية تعايش المجتمع المصري في فترة جائحة كورونا بعد أن توقفت كل الموانئ بجميع أنواعها البحرية والبرية وحتى الجوية، يجد أن السوق المصرية كانت تتوفر بها كل السلع الغذائية، ولم يشعر الفرد بأي نقص من الاحتياجات الضرورية واللازمة، في حين كانت هناك كثير من الدول تعاني من عدم توفر السلع الغذائية الأساسية.
وهنا يظهر قيمة وقوة مقدرات الدولة الحقيقة في مواجهة المخاطر، ويظهر قيمة مصر كدولة زراعية في المقام الأول، ومدي أهمية وعظيم هذه القيمة التي يجب الحفاظ عليها، وتنميتها والعمل على التوسع فيها، خاصة أنها أحد الموارد الهامة في المقام الأول في مجال التصدير وتوفير النقد الأجنبي للدولة.
كذلك تكون أهمية التعليم وتطويره بنفس أهمية المفهوم الزراعي لمصر، فهو الوسيلة الأولي للحفاظ على المجتمع وتحقيق كيان الدولة وأمنها القومي والسيادي، والحفاظ على وجود فرد واعي متطور يمثل كيان الدولة وتقدمها.
الحديث هنا عن تطوير التعليم والعمل على رفع جودته وتحديثه وكشف مدى مواكبته للنظام العالمي، وليس الحديث عن وجوده أو إنشاءه، فلسنا في حالة صفرية كما يروج البعض، بل كنا دائمًا في حالة من الريادة، لكنها تأثرت بسبب طفرة تطوير عالمية سريعة كانت تحتاج مواكبة لحظية لهذه الطفرة العالمية وليس مجرد رد فعل.
التعليم وظهور الطبقات الاقتصادية
من المخاطر على المجتمعات، عدم وجود تنوع للطبقات المجتمعية والاقتصادية، وتكون المجتمع من طرفي نقيض، طبقة عليا قليلة وطبقة دنيا أكثرية، وهذا من علامات الخطر على حالة المجتمع وأمنه واستقراره.
فكان للتعليم دور في فترة السبعينيات والثمانينيات وحتى أوائل الألفية الثالثة كسبب في تعدد وظهور الطبقات الوسطى داخل مصر، حتى غزا المصريون دول الخليج ودول أخرى كان لهم الفضل على هذه الدول بالتعليم، فالفرد المتعلم يسافر إلى بلد ناشئة، ليكون هو أحد أدوات تطويرها وتطوير مجتمعها، فيكون العائد المادي من ذلك هو ما يغير حياته وحياة أسرته ومجتمعه، الذي ينتقل معه إلى طبقة أعلى، وهنا يبدأ ظهور الطبقات الوسطى والوسطى العليا التي تحقق توازن المجتمع والسلم والأمن الاجتماعي.
التعليم هو أحد المسببات الهامة لتكوين الطبقات وتنوعها وتكوين الترابط بينها وتحقيق الاستقرار المجتمعي.
تجربة الهند في التعليم
الهند وجدت نفسها دولة فقيرة ذات عدد سكان يقارب سدس العالم، فقررت أن تجعل التعليم هو بوابتها ومستقبلها للقضاء على الفقر، واهتمت بملف تطوير التعليم، فنجدها اليوم دولة متقدمة في مجال البرمجيات والرقائق الإلكترونية والتكنولوجيا الحديثة والطاقة الشمسية ومجالات أخرى
بل تغول الأمر في غزو أفرادها دول الخليج وغيرها من الدول، ليكونوا حاليًا بديلًا ومزيجًا للعنصر المصري وليس مجرد منافس له.
إن خروج العنصر المصري من معادلة هذه الدول ليس مجرد خسارة للنقد الأجنبي، بل هو خسارة تتعدى هذا التصور الذهني البسيط.
العنصري البشري في المجال العلمي، هو أداة الدولة المتنفذة داخل كيانات الدولة المستقبلة، ليساعد في التواصل بين الدولتين ويساعد في نقل الخبرات والمشروعات بين الدولة المُرسلة والمستقبلة.
ولذلك كانت تجربة الهند هي تجربة حاضرة ذات نتاج محدد ومعروف، يجب الاستفادة منها خاصة، أنها تشبهنا في كثير من المحاور والنقاط، وعدم الوقوف بدور المتفرج خاصة في وجود مشاريع تنموية في الدول المحيطة يجب أن يكون للعنصر المصري دور فيها ومشاركة في هذه التنمية الحالية.
عالِم وليس عامل!
إن الحديث عن تطوير التعليم وإنتاج فرد بجودة تعليمية عالية ليس مجرد رفاهية، فخسارة المكانة العلمية في سوق العمل، ستنقل الفرد الباحث عن السفر من البحث عن سفر بمفهوم عالم إلي مفهوم عامل!
خروج العنصر العلمي من معادلة العمل، هو تحويل الدولة لمجرد مورد للعمالة، لا يستفيد شيئًا غير النقد الأجنبي الناتج من هذه العملية، كما هو حادث في دول كثيرة لم تتقدم علميًا، مثل دول أمريكا اللاتينية وحالها مع أمريكا الشمالية فهم مجرد عمالة يدوية تجني فقط المال ولا تتطور بلادهم في شيء، وكذلك حال أوروبا الوسطي مع أوروبا الغربية وغيرها من الدول التي لم تستفد من هجرة مواطنيها للعمل، غير زيادة الدخل، ولم تتطور دولهم عن طريق الخبرات المنقولة من الدول المستضيفة.
ريادة التعليم قِبلة الزعماء
ريادة التعليم تجعل الدولة قبلة لعناصر هامة، تأتي للحصول على التعليم ثم تعود إلى بلادها حاملة كثير من الولاء والوفاء للدولة التي منحتهم هذا العطاء.
في خلال العقود السابقة، كان لمصر دورًا في تعليم شخصيات بارزة من رؤساء وملوك وأمراء وزعماء دول وشخصيات سياسية عربية ودولية تلقت تعليمها في مصر وعاشوا على أرضها، ثم عادوا إلى بلادهم ذاكرين دائمًا فضل مصر عليهم، ونتاج لذلك فتحوا بلادهم للمصريين في مجال العمل كوفاء لهذا الدين.
وهذا مشهود في دول كثيرة كالعراق والإمارات والكويت والسعودية وغيرها، وحتي دول أوروبية كإسبانيا وآسيوية كماليزيا.
الهند تغزو العالم من مكانها
يتميز مجال البرمجيات والتكنولوجيا، أنه مجال عالمي يعمل بصورة لا مركزية، ولذلك نتيجة لتركيز الهند على تطوير التعليم في المجال التكنولوجي والبرمجيات، جعل الهند تصدر برمجيات من مكانها تجني منها المليارات التي تساعد في زيادة الدخل القومي، وتجعل الهند من دول الريادة في هذا المجال.
إن مجال واحد، وهو مجال صناعة الألعاب البرمجية تجني الهند منه 6 مليارات دولار سنويًا، من سوق يتعدى 350 مليار دولار عالميًا، سلعة قد تري بالنظرة البسيطة أنها مجرد ترفيه لكن هي اليوم أحد أكبر السلع التي تباع عالميًا.
لم يتوقف الأمر في التطوير الذي تبنته الهند بإرسال أفرادها المسلحين بالجانب العلمي والتكنولوجي لغزو الشركات داخل الدول، بل صدرت منتجات البرمجيات من داخلها لتغزو العالم من مكانها.
لماذا تطوير التعليم أمن قومي
إن مفهوم الأمن القومي لم يعد ينظر إلى القوة العسكرية كمصدر وحيد للحفاظ على أمن الدولة وسيادتها كما كان في الماضي، بل أصبح ينظر إلي الأمن القومي كقضية مجتمعية ذات أبعاد متعددة ترتبط بكافة جوانب المجتمع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمادية والتنموية، ومن ثم فإن تحقيق الأمن القومي بهذا المفهوم الجديد يتطلب ضرورة بناء القوة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والإعلامية اللازمة، ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا من خلال التعليم وتطويره بما يواكب طفرة العصر ومتطلباته.
لذا فإن مسئولية حماية ودعم الأمن القومي ليست مسئولية المؤسسة العسكرية والأمنية وأجهزة المخابرات فحسب، وإنما هي مسئولية جميع مؤسسات المجتمع، فالأمن لا يتحقق بفاعلية حقيقية من دون نظام تعليمي يتوافق عضويًا ووظيفيًا مع أهداف الأمن القومي وسياساته. وأن الأمن القومي بأبعاده المختلفة لا يتحقق إلا إذا توافر العنصر البشري المؤهل علميًا بروح العصر ومتطلباته والمدرب تدريبًا جيدًا، القادر على العمل من أجل تحقيقه.
إن الاتجاهات العالمية المعاصرة برهنت بقوة على أن بداية التقدم الحقيقية لأي دولة أيا كان حجمها بين الأمم هي التعليم لما له من دور فعال في تحقيق الصحوة والوعي والتعبئة القومية تجاه قضايا التنمية والتقدم
المحاكاة توفر الجهد والوقت
إن البحث عن بداية التطوير ومن أين، وكيف ابدأ، لم يعد أمرًا صعبًا، ولم يعد يتطلب الأمر البداية من الصفر، فأصبح التطوير اليوم يبدأ من المحاكاة باختيار نموذج ناجح وتقليده (البداية من حيث انتهى الآخرون)، فالنماذج التي برزت ونجحت وتصدرت في الريادة خلال العقدين السابقين نماذج متعددة، يمكن اختيار نموذج منها والعمل على تكراره.
لم يكن التعليم في مصر في حالة صفرية، فمصر دائمًا تملك الكليات العلمية والمقدرات البشرية المتميزة في كل المجالات وحتي في أندر المجالات، وهذا مشهود ومعروف، فقط يحتاج الأمر أن يكون له الأولوية والنموذج العلمي المحدد للبحث عن دور الريادة فيه، وليس مجرد رد فعل تحت وطأة وجوب مواكبة التطور العالمي الحالي.
*استشاري وخبير تطوير النظم البرمجية والإدارية
رابط مختصر : https://roayahnews.com/?p=1742736