إنترنت الظلام.. عالم الجريمة الإلكترونية ومخاطر الأمن القومي

بقلم| أحمد بدر

في عالمك الواقعي تتم الأعمال الإجرامية في الظلام بعيدًا عن أعين الناس والجهات الرقابية، وهذا بالضبط ما يحدث في عالم الإنترنت المظلم (Dark Web).

إن التطور التكنولوجي السريع وانتشار استخدام الإنترنت أحدث تغيّرات ثورية كبيرة لجميع الأنشطة والمجالات، حتى عالم الجريمة نفسه حدث له تطور كبير ومفزع، مُستغلًا إمكانيات هذه التكنولوجيا كملاذ آمن يعيش بداخلها، ويستغل إمكانياتها.

وذلك في عالم لا يعترف بالحدود الجغرافية، ولا بالقواعد السياسية للدول ولا بسيادتها، في عالم البحث عن الفاعل لأي حدث أصبح سرابًا تحت شرعية الأنظمة المعلوماتية نفسها، عالم قد تطورت فيه أدوات وسبل الجريمة الإلكترونية بشكل أكثر تعقيدًا وأشد ضررًا من قبل، أنه عالم الإنترنت المظلم “Dark Web”، إنه المكان الآمن والملاذ الذي تتستر خلفه الأنشطة الإجرامية في العالم الآن.

انترنت الظلام

أنواع الانترنت ونشأة إنترنت الظلام (Dark Web)

ينقسم عالم الإنترنت إلى 3 طبقات من العمق والتخفي تبدأ من الأعلى ثم إلى الأسفل:

• الإنترنت السطحي«Surface Web»: هو عالم الصفحات المفهرسة، وهو ما يصل إليه المستخدمون العاديون في نشاطهم اليومي المعتاد، ويكون متاحًا باستخدام محركات البحث العادية مثل Google وBing وغيرها من المتصفحات المعروفة والمشهورة.
• الإنترنت العميق«Deep Web»: هو عالم الخصوصية، فيتكون من المواقع الإلكترونية غير المفهرسة ويتعذر الوصول له عبر المتصفحات التقليدية وله بروتوكولات خاصة به في التعامل، وهو عالم الإنترنت الأكبر غير المتداول.
• الإنترنت المظلم«Dark Web»: أرض الجريمة والظلام، هو فرع من عالم الإنترنت العميق (Deep Web)، لكنه الأكثر سرية ولا يتم الوصول إليه إلا عبر متصفحات محددة، وهو الهدف المنشود لكل أنواع الجريمة المنظمة والدولية وأعمال التجسس والتخريب والأعمال التجارية الإجرامية.

انترنت الظلام

بدأ تطوير وتاريخ الانترنت العميق “Deep Web” عبر مختبر أبحاث تابع لوزارة الدفاع الأمريكية في مشروع متصفح “تور” The Onion Router – TOR، كمشروع لإنشاء شبكة خاصة آمنة وسرية لاستخدامها في الأغراض العسكرية والحكومية وخاصة أعمال التجسس وتجارة الأسلحة في العالم، وتم تطويره من قبل مكتب البحوث البحرية الأمريكية، وفي عام 2004 أطلق المتصفح للاستخدام العام.

على آثر ذلك قام الناشطون والمناهضون لعمليات المراقبة والباحثون عن الخصوصية باستخدام هذه الشبكة كملاذ آمن دون وجود رقيب أو تتبع لهوياتهم، ثم سرعان ما انضم لهم الباحثين عن الخفاء من الجماعات المنشقة والمعارضة والجماعات الإرهابية، ثم لحق بهم وانضم أيضًا الباحثين عن الظلام لتنفيذ عملياتهم التجارية الإجرامية من تجارة للمخدرات والأسلحة والدعارة وغسيل الأموال وكل أنواع الجريمة الدولية، حتى تكونت شبكة الإنترنت المظلم (Dark Web) بوضعها الحالي.

انترنت الظلام

ولأن هذه الشبكة كانت الملاذ والمكان المنشود لحرية التحرك دون رقابة، ازداد نمو الشبكة بصورة مطردة وسريعة بشكل مرعب ومخيف، حتى وصلت للشكل الحالي ككيان مزعزع لأمن الدول واستقرارها.

انترنت الظلام

هل يمكن إيقاف الإنترنت المظلم (Dark Web)؟

اختصارًا، لا يمكن إيقاف هذا العالم، لأنه بني في الأصل لأغراض تيسير التحركات السرية وخدمة الأغراض الأمريكية المخابراتية، ثم سرعان ما استغلت الجهات الأخرى الطامحة للثروة وأعمال الجريمة إمكانيات هذه العالم الخفي.

يستخدم عالم الإنترنت المظلم النطاق (onion.) وهو نطاق حددته هيئة الإنترنت (ICANN) وهي الجهة المسئولة عن نطاقات الإنترنت، كنطاق لمستوى أعلى يكون لغرض خاص في تنفيذ خدمة دون التعريف بالهوية وبخصائص عالية السرية، وهي وظائف مطلوبة خاصة للجهات الحكومية الأمنية والمخابراتية.

يتم الوصول لعالم الإنترنت المظلم عبر متصفحات محددة على رأسها المتصفح Tor، والذي صمم على عكس فكرة أساس البنية التحتية للانترنت، فالبنية التحتية للإنترنت تقوم على تتبع المستخدمين بشكل كبير، حيث ببساطة يمكن معرفة من يتصل بمن، ولذلك بني المتصفح “تور” على خلاف هذه الفكرة، حيث يتيح الفرصة لهؤلاء الأشخاص الذين يريدون استخدام الشبكة العنكبوتية دون رقابة.

فعلي سبيل المثال خدمات “تور” الخفية تتيح للصحفيين، التواصل بأمان أكبر مع كاشفي الفساد، دون تتبع أو وجود خطر على مصادرهم.

وفي مثال آخر، كشفت شركة فيسبوك، أن عدة ملايين من مستخدميها يدخلون إلى شبكتها الاجتماعية من خلال شبكة “تور”، وأن الكثير منهم من مناطق تفرض قيودًا كبيرة على تصفح الإنترنت، كإيران وكوريا الشمالية.

انترنت الظلام

إن الدول والجهات التي عملت على محاربة هذا العالم لم تجن غير زيادة قوته وانتشاره
قد سعت بعض الدول إلى تتبع الأخطاء التي يقع بها أفراد الويب المظلم، واستغلال نقاط الضعف الموجودة في المتصفح Tor واختراقه عن طريقها، وأيضًا قامت الصين بحجب المواقع التي تسمح بتحميل المتصفح Tor.

لكن كل تلك المحاولات أدت إلى نتيجة عكسية على غير المتوقع، فبعد قيام الحكومات بإغلاق تلك المواقع والقبض على الأفراد الذين يقومون بإدارتها، تعود للظهور من جديد مستخدمة آليات تسمح بقدر أكبر من السرية، وصعوبة الاختراق وكشف الهوية، بل ويؤدي إغلاق تلك المواقع أيضًا إلى ظهور مواقع جديدة تقدم محتوى مشابها للمواقع التي تم إغلاقها.

ووفقًا لتقرير مسرب من وكالة الأمن القومي الأمريكي عام 2007، فإن الثغرات الموجودة في المتصفح Tor تسمح بالكشف عن هوية عدد قليل للغاية من الأفراد، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الكشف عن هويات بقية الأفراد.

حتى قرار الصين بمنع تحميل Tor أدي إلى تطوير نسخة جديدة يصعب اختراقها.

ومن ثم يمكن القول إن الشبكة المظلمة تمثل أحد أبعاد الصراع المفتوح بين الحكومات والفاعلين من غير الدول، العابرين للحدود والناشطين في المجال الافتراضي الباحثين عن حرية التحرك دون رقابة، وهو ما يساعد في استمرار الشبكة المظلمة واتساع نطاقها، وتشعب محاورها وتطبيقاتها.

انترنت الظلام

خطورة الإنترنت المظلم (Dark Web) على الأمن القومي

إن مخاطر الإنترنت المظلم على الأمن القومي تفوق التصور البسيط لعالم الجريمة المعروف، وذلك لأن عالم الإنترنت المظلم يوفر الشرطين الأساسيين لتنفيذ الجرائم الدقيقة العابرة للحدود، والمؤثرة على الأمن القومي للدول، وهما:

• تنفيذ الجرائم الدولية كتجارة الأسلحة والمخدرات وغسيل الأموال وتجارة الأعضاء وشبكات الدعارة الدولية، والأعمال التجسسية عبر المؤسسات المزروعة داخل الدول، والمنظمات الإرهابية، كل هذه الأنواع من الجرائم الخطرة، دون رقابة من الجهات الأمنية!
• توفير عملية الدفع والتمويل لهذه الجرائم دون أي تتبع للحركة المالية، وذلك عبر العملات الإلكترونية المشفرة، التي تتيح التحرك الخفي دون أي تتبع أو رقابة من الجهات الأمنية.

انترنت الظلام

بتوفر هذان الشرطان، تجد الجريمة الملاذ والمكان الأمن والبيئة المساعدة على النمو والازدياد والتوسع

إن هذا العالم ينمو ويتطور بشكل مخيف، خاصة في الدول التي عززت حكوماتها الأمن السيبراني، حيث عالم الانترنت المظلم هو شريان الحياة لأفرادها بتجنب الرقابة الأمنية، ثم سرعان ما تطور الأمر وقرر رواد هذا العالم في هذه الدول أن يكون هذا العالم هو تجارتهم وسطوتهم على عالمهم والعالم الآخر، مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران، حتى لحقوا بعالم الجريمة الدولية، التي لا تعرف حدود أو سيطرة تحدها أو توقفها

انترنت الظلام

إن عالم الإنترنت المظلم هو عالم الجواسيس، فأخطر الجرائم التي تؤثر على الأمن القومي هي الجرائم التي يرى آثارها ولا يعرف مخططها أو أدواتها أو فاعليها

فمن تداول صفقات وأسواق بيع وشراء لسلع غير مشروعة، إلى تواصل استخباراتي ونشاط ضخم للمعارضين والجواسيس والمتطرفين والمجرمين، كل ذلك يجري في عالم مخفي بأكمله يوجد أسفل الانترنت العادي الذي يتصفحه كل شخص يوميًا.

فالإنترنت المظلم (Dark Web)، هو منصات تجنيد تنمو بصورة صاعدة، خاصة مع ازدياد البطالة الالكترونية:

وهي انتشار العاطلين مدمني الإنترنت ذوي الدخل المحدود أو المستوى التعليمي المحدود الطامحين بالثروة السريعة، فتتوفر الأسباب الدافعة للدخول في عالم القرصنة الالكترونية، وسرقة المعلومات المالية والبنكية، وانتشار عالم الجريمة والمجرمين، وعالم الاستخدام والتجسس، وعالم الإرهاب الموجه العابر للحدود.

رغم كل هذا العالم الضخم الذي يتم في الخفاء لا يتوفر له أرقام تقديرية عن حجمه بسبب سريته وآليته في إخفاء الهوية، لكن آثار نتائجه تخبرنا أنه يتكاثر ويتوسع مع انتشار استخدام الإنترنت عبر الهواتف الذكية أو أجهزة الكمبيوتر، حيث الدافع الرئيس والهدف المشترك بين كل هذه الجرائم هو جني المال.

حتى الطامعين في هذا الاتجاه إن لم يتم تجنيدهم واستخدامهم عبر المنظمات الاستخباراتية الدولية سيعملون بصورة فردية لأجل مصالحهم الشخصية، خاصة جرائم الابتزاز وسرقة البيانات الشخصية وهذا مشهود وظاهر.

انترنت الظلام

كل هذه المخاطر التي يتعرض لها الأمن القومي، والتي تم عرضها، توضح أن التعامل مع هذا العالم الجديد لا يكفيه مجرد وجود قسم أو إدارة تحت اسم جرائم الإنترنت، بل لخطورة الأمر واتساعه يحتاج لكيان متكامل علمي وبحثي ومتخصص كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية وهي ساحر الظلام الذي أوجد هذا العالم بداية لخدمة مصالحها وتحركاتها السرية في العالم.

إن ما يتعرض له الأمن القومي من مخاطر على يد هذه التكنولوجيا، يوصي بسرعة تطوير القوانين والعقوبات التي تواجه وتواكب هذا النمو لهذه الشبكة الخفية، والعمل على إنشاء المؤسسات الأمنية المتخصصة بصورة علمية متكاملة اعتمادًا على التعاون الدولي وتبادل الخبرات في مواجهة هذا الخطر مع الجهات التي بدأت في هذه المواجهة وكونت الخبرة المطلوبة، خاصة بعد الاهتمام الكبير والتحديث في تكوين الفرق المتخصصة في عالم الشبكة الخفية الـ”دارك ويب” من قبل الإنتربول الدولي وغيرها من المنظمات الأمنية الدولية.

* استشاري وخبير تطوير النظم البرمجية والإدارية

badrmedia@dewsoft.net